أقابل فى مصر الكثير من الباحثين الشباب وطلاب الجامعات الذين يرغبون فى عمل بحث علمى، هذا البحث قد يكون لمشروع تخرج أو لدراسات عليا أو للترقى فى السلم الأكاديمى ... كل هذا جميل ومبشر والحماسة التى أراها فى الكثير من العيون والطلاب وهم يتكلمون عن طموحاتهم فى البحث العلمى واضحة جداً ورائعة ... لنرجع الآن إلى عالم الواقع ونرى ماهى المصاعب التى عليهم أن يواجهوها من أجل أن تزيد إحتمالات النجاح ... ولا نستطيع أن نقول "كى يضمنوا النجاح" لأن البحث العلمى الحقيقى هو "بحث" أى أن النجاح قد يكون حليفك فى بعض الأوقات والفشل أيضاً ... إذا كنت ضامناً النجاح من البداية فهذا ليس بحثاً علمياً.
الخطوة الأولى هى خطوة نفسية فى المقام الأول، لا يجب أن تبدأ بحالة مثل "إذا نجح هذا البحث سأكون خطوت خطواتى الأولى نحو الحصول على جائزة نوبل" أو ما شابهها وذلك لعدة أسباب: أولها أن أفضل الحالات النفسية للبحث العلمى هي الفضول العلمى والرغبة في خدمة المجتمع أما إذا كنت تعمل البحث من أجل جائزة أو شهرة فأنت رجل أعمال ولست باحثاً وثانيها أن رغبتك في الشهرة والجاه قد تدفعك إلى إختيار بحث أو تخصص غير ملائم لشخصيتك وظروفك كما سنرى لاحقاً، أما السبب الثالث فهو إنك إن وضعت هدف كبير جداً كنتيجة لعملك وفشل البحث (وهذا يحدث للجميع) أولم يأت بالنتيجة المرجوة ستكون تحت ضغط أثناء العمل ومحبط بعد إنتهاء المشروع ... إذا قرأنا تاريخ الأبحاث التي صنعت تأثيراً كبيراً وحازت شهرة واسعة لوجدنا شيئاً مثيراً: في أغلبها لم يبدأ الباحث في العمل على "بحث نوبل" ولكن على مشكلة أخرى وأثناء العمل وجد شيئاً جانبياً مثيراً أو مشكلة يجب حلها أولاً قبل استكمال حل المشكلة الأصلية ... وتكون النتيجة أن هذه المشكلة الجانبية هي التي تجلب التأثير المدوى ... هذا معناه أن الباحث يجب أن يعمل في مشكلة بحثية مهمة ويكون يقظاً لما يطرأ أثناء هذا العمل ولا يضع في حسبانه حكاية نوبل هذه!
الخطوة الثانية هى إختيار مجال بحثى يناسب ظروفك وهذا شيء يغفل عنه الكثيرون، فالباحث في الكثير من الجامعات في أمريكا مثلاً يعمل في الجامعة طوال الوقت، ولكن يوجد الكثير من الباحثين الذين يعملون في وظائف أخرى والبحث العلمى يأخذ حيزاً قليلاً من وقتهم (مثل من يحضر محاضرات الدراسات العليا في المساء بعد يوم عمل ثم يعمل في الرسالة في أيام الأجازات أو في المساء)، ما تحتاج إليه في بحثك (مثل الأبحاث العلمية الحديثة والأجهزة وما إلى ذلك) يدخل أيضاً في بند الظروف، كلما قل الوقت وقلت الموارد يجب أن يكون البحث متناسب مع ذلك ولا تظن أنك قد تستطيع أن تعاند الظروف عن طريق تقليل ساعات النوم مثلاً لأن ذلك سيأتى على حساب تركيزك وصحتك وعملك وأسرتك، لا تظن أن إختيار بحث في نقطة صغيرة يعتبر شيئاً سيئاً لأن هذه النقطة الصغيرة تساعد في بناء كبير ولكل فائدته، وإن كان التاريخ يذكر فقط من وضع اللبنة الأخيرة في هذا البناء فهذا لا يجب أن يحبطك لأن بدون الحجر الصغير ما كان البناء الكبير فتأثيرك في بحر العلم محفوظ ... وفد إتفقنا أن الشهرة ليست معياراً!
الخطوة الثالثة هى إختيار مجال بحثى يناسب قدراتك وشخصيتك وهذا موضوع قد ناقشناه في مقال سابق، للمشكلة العلمية شخصية وللباحث شخصية فيجب أن تختار ما يناسب شخصيتك، هناك مشكلات تحتاج عمل دؤوب (وقد يكون مملاً في بعض الأحيان) ودقة كبيرة وهناك مشكلات تحتاج تفكير خارج الصندوق، هناك مشكلات تحتاج معرفة عميق بموضوع معين وهناك مشكلات تحتاج معرفة إتصال عدة موضوعات مع بعضها ... وهكذا ... وعلى ذلك نهمس في أذن الأساتذة المشرفين: إختاروا موضوعات بحثية تناسب شخصيات الطلبة وليس شخصياتكم أنتم ... هذا شيء ليس سهلاً لأنه يتطلب من الأستاذ المشرف معرفة شخصية الباحث ثم إختيار مشكلة علمية متعلقة بأجندة الأستاذ البحثية وفى نفس الوقت تناسب شخصية الطالب ... الإشراف العلمى الحقيقى صعب للغاية!
هناك عدة كتب تساعد الباحث فى الأمور التى ذكرناها فمثلاً إذا كنت تخطو خطواتك الأولى في طريق البحث العلمى هناك كتاب سهل بعنوان
(Your Research Project: A Step by Step Guide for the First-time Researcher) أو "بحثك العلمى: خطوة بخطوة للباحثين المبتدئين" للباحث والمحاضر (Nicholas Walliman) ... وهناك كتاب (An Introduction to Scientific Research) أو "مقدمة في البحث العلمى" وهو للعالم الكبير (E. Bright Wilson, Jr) ... أما إذا كنت تريد التعمق في الظروف التي تساعد على نجاح البحث العلمى فعليك بالكتاب الرائع (The Art of Sceintific Investigation) للعالم والأكاديمى الكبير (W. I. B. Beveridge).
قد يتسائل القارئ العزيز عن سبب معنونتى المقال ب"المشروعات البحثية الصغيرة"؟ لماذا صغيرة؟ لأنى أريد أن أقول أن البحث العلمى مهم أياَ كان الموضوع طالما ستزيد المعرفة البشرية في موضوع ما ولو بمقدار صغير فلا تستهين بموضوع لأنه لن يحصل على نوبل ... البحث الذى حصل على نوبل ما كان لينجح دون الأبحاث الصغيرة التي تمت قبله.