على من تتقشف الموازنة؟ - سامر عطا الله - بوابة الشروق
السبت 28 سبتمبر 2024 12:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على من تتقشف الموازنة؟

نشر فى : الأربعاء 4 يناير 2012 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 4 يناير 2012 - 9:35 ص

أعلن رئيس الوزراء عن اجراءت لخفض عجز الموازنة تشمل خفض الإنفاق الحكومى بقيمة 20 مليار جنيه تشمل خفض فى البابين الأول والثانى من الموازنة العامة وهى الأبواب الخاصة بالأجور والمشتريات. وحتى الآن لا نعرف أى تفاصيل على مدى وعمق هذا الحد من الإنفاق. فى تصورى هذه بداية لسياسات مالية تقشفية سوف تتبعها حكومة ما يسمى بالإنقاذ الوطنى وانعكاس لمنهج اقتصادى فاشل وسياسة منحازة لمعالجة عجز الموازنة.

 

عجز الموازنة هو الفرق بين مصروفات الحكومة من أجور ورواتب ومشتريات ودعم واستثمارات من ناحية وإيراداتها من ضرائب من ناحية أخرى. وفى حالة مصر استمر العجز لعقود طويلة بسب غياب سياسة اقتصادية وطنية تحقق مصلحة الوطن والمواطنين على المدى القصير والبعيد. فكان الإقراض هو الحل السهل بالمقارنة بمعالجة العجز الهيكلى فى الموازنة. وبعد سنوات طويلة من الاقتراض سواء من الداخل أو الخارج أصبح الاقتصاد المصرى محملا بتركة مهولة من الديون. والمصيبة ليست فى حجم الديون التى قاربت نسبتها من حجم الناتج القومى النسب المقلقة ولكن المصيبة أن كل هذا اقتراض لم يحقق طفرة نوعية فى حياة السواد الأعظم من المصريين. لأن السياسة الاقتصادية المتبعة كانت توفير الحد الأدنى من الكفاف حتى لا يثور الناس مع توجيه الموازنة لدعم الاستثمار والمستثمرين. ومنذ قيام الثورة لم يحدث تغيير فى التوجه الاقتصادى للدولة والإعلان عن إجراءات تقشفية هو استمرار فى نفس الفلسفة. ومبعث اعتراضى على  اتباع هذه السياسات هو سببان: السبب الأول هو أن أى إجراء تقشفى أثناء حالة ركود اقتصادى كالتى تمر بها مصر الآن هو خطوة كارثية بكل معانى الكلمة. فمن بديهيات السياسة المالية أن تتوسع الحكومات فى إنفاقها عندما ينكمش النشاط الاقتصادى الخاص وينخفض النمو الاقتصادى والعكس صحيح عندما ينشط الاقتصاد ويزداد النمو الاقتصادى تخفض الحكومات من إنفاقها وتبدأ فى سداد الدين العام. والحكمة فى ذلك أن الإنفاق الحكومى لديه القدرة على تنشيط الحركة الاقتصادية بسب قدرته على الاقتراض حين يعجز القطاع الخاص عن الاقتراض ولقدرته على زيادة الطلب العام  فتنشط «العجلة الإنتاجية». وبالنسبة للحالة المصرية فحالة الركود الاقتصادى ما هى إلا انعكاس لحالة الارتباك السياسى والفوضى الأمنية مما نتج عنه انخفاض حركة البيع والشراء والاستثمار. فحتى بعد الانتهاء من الانتخابات وتسليم السلطة المفترض إلى سلطة مدنية منتخبة والعودة المأمولة للإحساس بالأمن، لن يستطيع القطاع الخاص وحده تحقيق نشاط ونمو اقتصادى كافيين لأسباب عدة أهمها حالة الركود العالمى التى تنبئ بأزمة اقتصادية أخرى قد تكون أعمق من الأزمة المالية العالمية فى الأعوام السابقة ولعدم قدرة القطاع الخاص منفردا استيعاب العمالة الإضافية نتيجة الركود فى العام المنصرف. مما يتطلب أن تتدخل الحكومة المصرية بسياسة توسعية سريعة تشمل برامج اجتماعية محددة الأهداف وموجهة إلى القطاعات الأكثر تضررا.

 

أما السبب الثانى لاعتراضى على سياسة التقشف هو أن التقشف ليس العلاج الصحيح لعجز موازنة هيكلى كالحالة المصرية. فالحديث عن تقشف بدون علاج جذرى للخلل الهيكلى فى الموازنة ومعالجة انحيازها الفاضح ضد عموم الشعب المصرى هو حديث هزلى من باب إضاعة الوقت وإعطاء مسكنات لمشكلة أخذت من المسكنات ما يكفيها. وأى حديث عن عجز الموازنة لا يطرح ملف دعم الطاقة هو حديث يتفادى أحد أسباب المشكلة وينشغل بالتفاصيل. فدعم الطاقة يلتهم عشرين بالمائة من الموازنة، وجزء كبير منه يمكن إلغاؤه لأنه موجة لصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وصناعات تحقق معدلات أرباح عالية. فكل مرة تعلن الحكومة عن البدء فى إلغاء الدعم للصناعة تتراجع. فهل تصدق هذه المرة؟ وإن صدقت فما هى خطتها لمعالجة باقى هذا الملف؟ فهو ملف غاية فى الخطورة ومعالجته تحتاج إلى خطة واضحة ومتدرجة.

 

●●●

 

قد يمتد سرد أمثلة لعوار الموازنة صفحات وصفحات. أفجع مثال هو أن قطاع الأمن يحصل تقريبا على ما يحصل عليه قطاع الصحة (حوالى عشرين مليار جنيه)! فأجهزة الأمن التى ما زالت تقمع وتقتل وما زالت تتصيد أعين المتظاهرين على نفس درجة أهمية قطاع الصحة فى بلد يعانى الكثير من مواطنيه من أمراض الفشل الكلوى ويغيب الحد الأدنى من الرعاية الصحية فى معظم مستشفياته. ونجد أن المخصص فى موازنة عام 2011 لدعم المزارعين 2.2 مليار جنيه والمخصص لدعم  تنمية الصعيد 200 مليون جنيه فى حين المخصص لدعم تنشيط الصادرات 4 مليارات جنيه على الرغم من أن الغالبية العظمى من عمال مصر يعملون فى القطاع الزراعى وهم الأولى بالدعم ليس فقط لأنهم من الطبقات المهمشة فى المجتمع بل أيضا لما يمثله القطاع الزراعى من أهمية إستراتيجية لمصر. وكيف فى بلد فيه نسبة أمية تصل إلى ثلاثين بالمائة تكون ميزانية الهيئة العامة لمحو الأمية 56 مليون جنيه بانخفاض 100مليون جنيه عن العام السابق. 

 

علينا أن ندرك أن أى سياسة اقتصادية خاصة فيما يتعلق بالمخصصات فى الموازنة العامة تعكس مصالح اقتصادية لفئات فى المجتمع على حساب مصالح فئات أخرى. واستمرار عجز الميزانية فى الحالة لمصرية هو نتيجة مباشرة لسياسات انحازت لفئة تمثل شريحة صغيرة فى المجتمع ولكنها تمتلك ثقلا سياسيا واقتصاديا ضخما. حتى الآن تستمر حكومة الجنزورى ومن قبلها حكومة شرف فى إتباع نفس الانحيازات. وقريبا سوف تنتقل الكرة إلى ملعب مجلس الشعب المنتخب: إلى من ينحاز اقتصاديا؟ هل ينحاز إلى المصالح الاقتصادية والاجتماعية لملايين المصريين الذين انتخبوه؟ وهو فى انحيازه هذا يضع نفسه فى مواجهة مع شبكة مصالح كبيرة ومعقدة. فمصالح  كل من استفاد اقتصاديا من نظام مبارك من رجال أعمال محسوبين على نظامه بإضافة إلى المؤسسة الأمنية بشقيها العسكرى والشرطى مهددة إذا كانت الموزانة القادمة فى صالح عموم المصريين. فكل جنيه يستخدم فى رفع الحد الأدنى للأجور هو جنيه إضافى فى شكل ضرائب أعلى على شرائح الدخل العليا وكل جنيه يصرف على مستشفى ومدرسة هو جنيه أقل من ميزانية قنابل الغاز ومدرعات دهس المتظاهرين وكل جنيه نوفره من دعم الطاقة لمصانع الأسمنت هو جنيه نصرفه على مد شبكة كهرباء فى الصعيد. إذا أقر البرلمان القادم سياسات تقشفية فى أول موازنة له، فهو بالتأكيد لم ينحاز لغالبية من صوتوا له ولما نادت به الثورة.

 

●●●

 

كلمة أخيرة لمن يدافعون عن «الدولة» من سيناريوهات «هدم الدولة»:

 

أى دولة تلك التى تدافعون عندها وتخافون على مصر من سقوطها؟ الدولة ذات المستشفيات التى تمرض أكثر من أن تشفى؟ أم الدولة التى تركت مواطنيها يسكنون القبور والعشوائيات؟ أم الدولة التى أهملت أطفالها فأصبحوا بالملايين فى الشوارع  بلا مستقبل؟ أم الدولة ذات المدارس التى تغيب أكثر مما تعلم؟ أم الدولة التى قتلت أكثر مما حمت؟ أم الدولة التى فشلت حتى فى إدارة ملف بسيط كرفع القمامة؟ أفيقوا، فالدولة التى تريدون حمايتها سقطت منذ عقود طويلة ولم يبق فى مبانيها سوى ركام نظام قمعى وفى شوارعها قمامة فاحت رائحتها.

سامر عطا الله أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة الأمريكية
التعليقات