دعتنى إحدى اللجان المصرية الأكاديمية فى مجال العلوم السياسية للحديث فى حلقة نقاشية ضيقة عن مستقبل العلاقات المصرية العربية. لبيت الدعوة من فورى ليقينى بأهمية الموضوع الذى اختلطت فيه الرؤى بشأن المصالح العليا لمصر ومصادر تهديد أمنها الوطنى. تمنيت أن يكون ممكنا التوصل فى إطار الحوار داخل جماعة أكاديمية رفيعة المستوى إلى «كلمة سواء»، وانعكس هذا فى محاولتى تحرى الموضوعية قدر الطاقة فى طرح الموضوع. دار حوار واسع حول ما قلت بعضه مؤيد وبعضه معارض، وقدم فريق ثالث إضافات مهمة. واستغرق الحوار كامل المدة المخصصة للحلقة النقاشية فاقترح منظموها ــ ووافقت بحماس ــ على عقد جلسة ثانية تخصص لتعقيبى على ما دار والاستمرار فى الحوار. ثم أُبلغت لاحقا بالعدول عن الفكرة، فوجدت أنه من حقى أن استأذن قارئ «الشروق» فى أن أعرض عليه خلاصة ما دار فى الحلقة وتعقيبى الذى لم أقله فيها.
***
كنت قد بدأت بالحديث عن الأهمية الفائقة لعلاقات مصر العربية، والتأكيد على أنه فى هذه الظروف التى يثير البعض فيها شكوكا حول هذه الحقيقة قد يكون من الأفضل أن نتناول الموضوع بنهج «المصالح الوطنية»،وليس «الأيديولوجيا».. أن نقول بعبارة أخرى إن لمصر هذه المصالح المحددة فى الدول العربية، وإنه يتعين على الدوائر المسئولة فيها أن تحفظ هذه المصالح وتعظمها، ولا نقول إن «العروبة» تتطلب منا أن نفعل هذا الشىء أو ذاك، ففى مناخ مضطرب يسهل التمرد على الواجب، لكن الفكاك من المصالح صعب.
قلت كذلك إننا إذا اتفقنا على أن لمصر مصالح محددة ومهمة فى الوطن العربى، فإن الوضع الأمثل بالنسبة للسياسة المصرية أن تلعب دورا قياديا فى النظام العربى كى يسهل عليها ضمان سير التفاعلات فيه على النحو الذى يتسق وتحقيق المصالح المصرية فى إطار من تبادل المصالح بطبيعة الحال.. وفى هذا الصدد تحدثت عن أربعة متغيرات تؤثر على هذا الدور وهى تراجع المكانة النسبية للدور المصرى فى النظام العربى، وطبيعة المشروع العربى الراهن لمصر، والمتغير الشعبى والإعلامى فى علاقات مصر العربية، والاختراق الإقليمى والعالمى للنظام العربى.
وفيما يتعلق بتراجع المكانة النسبية للدور المصرى أشرت إلى أن إثارة هذا الموضوع عادة ما تنطوى على حساسية فائقة لدى الدوائر المسئولة وأنصارها، لأنها تتصور أن الحديث ينصرف إلى تراجع هذه المكانة فى العهد الحالى تحديدا ومن ثم مسئوليته عن هذا التراجع،بينما يشير الطرح العلمى للموضوع إلى أننا نتحدث عن ظاهرة بنيوية تعود إلى هزيمة يونيو1967 التى أحدثت «هزة» فى المشروع السياسى الناصرى لمستقبل الوطن العربى،وأوجبت درجة من درجات الانكفاء المصرى على هدف «إزالة آثار العدوان»، أو بالأحرى تحرير شبه جزيرة سيناء، وأفضت إلى قبول مصر مساعدات مالية لمواجهة أعباء مرحلة إعادة البناء العسكرى، وتصادف أن مصدر هذه المساعدات ثلاث دول عربية محافظة هى الكويت والسعودية والمملكة الليبية الأمر الذى شكل لا جدال قيدا على الحركة المصرية فى النظام العربى.. وبينما كانت حرب أكتوبر 1973،هى المقدمة الطبيعية لاستعادة مصر دورها القيادى العربى تمثلت المفارقة فى أن الأمر انتهى بتلك الحرب إلى تكريس تأثير عدوان1967على هذا الدور، فقد تواكبت مع الحرب الطفرة فى أسعار النفط على النحو الذى أوجد مراكز قيادية جديدة فى النظام العربى على رأسها السعودية والعراق بسبب تراكم العائدات النفطية التى ساعدت السعودية على امتلاك أداة اقتصادية فعالة لتنفيذ سياستها الخارجية، ومكنت صدام حسين من تنفيذ مشروع لبناء القوة العراقية كان من شأنه أن يغير التوازنات فى النظام العربى لولا الطريقة التى أدار بها صراعه مع إيران بعد ثورتها فى 1979، وقراره الكارثى بغزو الكويت فى 1990.
من ناحية أخرى بدا واضحا فى أعقاب الحرب أن الرئيس السادات يتجه إلى مشروع للتسوية مع إسرائيل، وهو ما اتضحت بداياته فى اتفاقية فض الاشتباك المصرية ــ الإسرائيلية الثانية فى سبتمبر 1975، وبلغ ذروته فى زيارة السادات القدس فى 1977، وتوقيعه اتفاقيتى كامب ديفيد معها فى 1978، ثم معاهدة سلام فى 1979، وهى تطورات لم تلق فى حينه تأييدا من معظم الدول العربية مما أدى إلى ما يشبه القطيعة المصرية ــ العربية الشاملة، الأمر الذى زاد فى حينه من تآكل الدور المصرى.
وفيما بعد تكفلت تطورات أخرى بتأكيد الاتجاه إلى تراجع المكانة النسبية للدور المصرى، وهو ما ينقلنا إلى طبيعة المشروع العربى الراهن لمصر، والذى يركز بوضوح على التسوية السلمية للصراع العربى ــ الإسرائيلى، ويلاحظ فى البداية أن اتجاه السادات للتسوية مع إسرائيل وإن رفض عربيا على نطاق واسع إلا أن النظام العربى لم يستطع بلورة خيار مضاد، فسرعان ما تفككت «جبهة الصمود والتصدي» التى تكونت لدحر خيار التسوية،ولحق بها مشروع الوحدة ــ العراقية الذى لم يزد عمره على الشهور الواقعة بين أكتوبر 1978 ويناير 1979، ولم يظهر أثر لاحق لقرار إنشاء قيادة عسكرية عربية موحدة الذى تبنته قمة عمان في 1980، ثم استقر النظام العربى على خيار التسوية فى قمة 1982 من خلال تبني «صيغة فاس» لتسوية الصراع العربي ــ الإسرائيلى، وقد كانت هذه الصيغة أفضل من إطار السلام فى الشرق الأوسط الذى وقعه السادات وبيجين فى سبتمبر 1978، إلا أنها لا جدال صيغة للتسوية وليست للمواجهة.. هكذا بدا وكأن الدور المصرى فى حينه مازال فاعلا على الرغم من القطيعة المصرية ــ العربية، فها هى السياسة المصرية تقود النظام العربي ــ ولو كرها ــ إلى مسار التسوية الذى أقام هذا النظام الدنيا ولم يقعدها من أجل رفضه عندما تبناه السادات.
غير أن تبنى مصر خيار التسوية عربيا بدأ بالتدريج يؤتى أكله بالنسبة لتراجع الدور المصرى، فمفتاح التسوية المصرية كان إلى حد بعيد بيد مصر، ولذلك أنجز السادات فيه بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، لكن مفتاح التسوية العربية لم يكن بيدها، وإنما هو أساسا بيد إسرائيل والولايات المتحدة، ولذلك فإن الدول العربية الراغبة فى تبنى خيار التسوية لم تجد فى نفسها حاجة إلى أن تدخل إلى ساحة التسوية من الباب المصرى، فبيت التسوية بابه أمريكى ــ إسرائيلى، ولذلك فإن دور مصر كوسيط أو «عامل مساعد» فى التوصل إلى تسوية تراجع بشدة. من ناحية أخرى فإن ثمة جهدا مخلصا يبذل من قبل مؤسسات مصرية رسمية فى مجال الصراع العربي ــ الإسرائيلى عامة وتسويته سلميا خاصة، غير أن هذا الجهد ربما يحتاج إلى رؤية جديدة.. فصعوبة رأب الصدع بين فتح وحماس قد تتطلب التفكير فى مسالك أخرى لتحسين الوضع الفلسطينى والعربى فى الصراع، وهذه قصة أخرى. كما أن التمسك الشديد بالالتزامات القانونية الفرعية (وأقصد بذلك كل ما هو دون معاهدة السلام) بات يسبب مشاكل متزايدة للسياسة المصرية فى محيطها العربى، على الرغم من أن التغير الجذرى فى الظروف يتيح للسياسة المصرية حجة قانونية للتحرر من بعض القيود ذات الطبيعة القانونية على حركتها، أو على الأقل لإعادة تفسيرها بما يتسق ومقتضى الحال.
يتعلق المتغير الثالث بعد ذلك ببروز الدور الشعبى والإعلامى فى إدارة علاقات مصر العربية، وهو ليس دورا جديدا، وإنما كان محكوما فى المراحل السابقة بتوجهات الدولة وتوجيهاتها، بحيث بدت الحركة المصرية رسميا وشعبيا حركة منسقة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع غاياتها.. غير أن أزمة كأزمة العلاقات المصرية ــ الجزائرية الأخيرة كشفت عن فوضى عارمة فى إدارة علاقات مصر العربية إذ تدخل فيها غوغاء كرة القدم وبعض وسائل الإعلام كى يستدرجوا «مصر» إلى المستوى المتدنى الذى نزلت إليه وسائل إعلام جزائرية فى معالجة الأزمة، ناهيك عن مطالبة بعض الشخصيات أو الجهات «بتدخل مسلح» فى الخرطوم لحماية المصريين فى أعقاب المباراة التى فاقمت الأزمة، الأمر الذى أساء كثيرا لعلاقات مصر العربية،خاصة أن الذراع الإعلامية لمصر أقوى بكثير على الصعيد العربى من الذراع الجزائرية.. واللافت أن الأزمة لم تبدأ السير فى طريق التهدئة إلا بعد تدخل متزن من قبل الرئيس مبارك، وهكذا فإنه بدلا من أن يلعب الرأى العام ووسائل الإعلام دورا إيجابيا فى تعزيز أواصر العلاقات المصرية ــ العربية أصبحت قطاعات من هذا الرأى العام وبعض وسائل الإعلام واسعة الانتشار تلعب دورا تخريبيا فى هذه العلاقات بالوعى أو بدونه.. وهو ما يقتضى وقفة تفضى إلى معادلة صحيحة بين حرية القول والفعل وبين الحفاظ على مصالح الدولة العليا.
تحدثت أخيرا عن متغير رابع فى علاقات مصر العربية وهو الاختراق العالمى والإقليمى للنظام العربى. وأشرت إلى أن الحالة الأمريكية ظاهرة للغاية خاصة فى أعقاب احتلال العراق في 2003، ومبادرة الشرق الأوسط الكبير في 2004،غير أن الحالتين الإيرانية والتركية تحتاجان تنويها خاصا، فكل من القوتين الإقليميتين الكبيرتين له مشروعه الوطنى ذو الآفاق الإقليمية التى تجعل من الوطن العربى مسرحا له، وقد حرصت كل من إيران وتركيا على التقرب من العرب بتبنى مواقف مواتية لهم تجاه الصراع العربي ــ الإسرائيلى، مع خلاف فى التفاصيل بطبيعة الحال، واستطاعت الدولتان أن تحققا مواقع مؤثرة للنفوذ والتأثير فى النظام العربى، وقد أشرت إلى أن التطورات الخاصة بصعود الدورين الإيرانى والتركى والتفاعل السورى الإيجابى معها ربما تنذر بتبلور نظام إقليمى جديد قد يصعب على مصر الالتحاق به فى ظل علاقاتها مع كل من إيران وسوريا، بل إن علاقاتها مع تركيا ربما يكون قد شابها مؤخرا بعض التوتر على ضوء طريقة التعامل المصرى مع قافلة «شريان الحياة» التى قامت تركيا بدور متميز فيها.. ولو حدث هذا فسوف يكون مردوده بالتأكيد سالبا على الدور المصرى فى النظام العربى.
***
هكذا بدت الصورة غير مشرقة بالنسبة لمستقبل العلاقات المصرية ــ العربية على الأقل فى المدى القصير، ذلك أن المتغيرات السابقة تفيد بتناقص القدرة المصرية على التأثير فى محيطها العربى، الأمر الذى يعنى أن مصالحها ضمن هذا المحيط لن تكون بالضرورة فى مأمن، وهو ما يتطلب حوارات موضوعية واسعة ذات أفق استراتيجى حول الموضوع تحاول فيه الجماعة المصرية الوصول إلى كلمة سواء فيما يتعلق بهذا الموضوع المهم.
أثار هذا الطرح نقاشا واسعا ما بين مؤيد ومعارض ومن تقدم بإضافة إلى الموضوع بغض النظر عن التأييد أو المعارضة، وكشف النقاش فى تقديرى عن صعوبة الوصول إلى «كلمة سواء» لو كان الحاضرون يعتبرون عينة ممثلة للنخبة المصرية، وتطلب الأمر منى التقدم ببعض التعقيبات والتصحيحات، غير أن الحلقة النقاشية قد انتهت دون أن أتمكن من ذلك.. وتلك قصة أخرى أستأذن قارئ الشروق فى أن أعود إليها لاحقا.