حدَّدَ سائقُ الميكروباص هدفَه في دِقَّة مُتناهية، وكبس بقدمِه المكابح فتوقفت العجلاتُ عن الدوران؛ تمامًا عند العلامة الصفراء المزروعة على مَطلع الكوبري، والتي حملت عبارةً قصيرة واضحة: "ممنوع وقوف السيرفس". أروح وأجيء مُستخدِمةً هذا الكوبري يوميًا، ومنذ ظهرت العلامةُ وسيارات الميكروباص تتوقف أسفلها بدأبٍ وانتظام؛ لا تتجاهلها ولا تتخطاها ولو بأشبارٍ مَعدودات، حتى غلبني الظنُّ وبعضه إثم؛ بأن السائقين معظمَهم يجهلُ القراءةَ؛ فيترجم الرمزَ والرسمَ على هواه. صورةُ الميكروباص تتوسط العلامة وتحيط بها دائرةٌ حمراءٌ؛ والمعنى الذي استقر في الذهن دون أن يفطنَ أحد للكلمات المَكتوبة؛ أن هذا المكانَ مُخصَّصٌ لصعود الركاب ونزولهم. الوَقفةُ تعطِّل المرورَ وتُكدِّس السياراتِ التي يستفزُّ الوضعُ قائديها؛ فتنطلق أيديهُم إلى الأبواقِ تضغطها في غَضَب، بينما الميكروباص يُبدِّل راكبيه مُستاءً مِن هؤلاءِ الذين لا يصبرون، ولا يفهمون أن هذا هو المَوقَف المُعَدّ له طبقًا للعلامة.
• • •
الوَقفةُ في قواميس اللغة العربية هي المرة الواحدة من الفعل وَقَفَ، والوقفاتُ كثيرةٌ مُتعدِّدة؛ ثمَّة وقفةٌ صارمةٌ وأخرى حاسمةٌ، وكلتاهما تأتي في إطار الجَدّ؛ لتوحي بمسلكٍ لا هزل فيه ولا استخفاف، وتضع حدًا فاصلًا بين حالين، أما الوقفةُ المُتأنية؛ فحال من التروّي والسكون، وإعمالٌ للعقل والفِكر، قد تُمَهِّد لحركةٍ ما وقد تطول فتتحول إلى مواتٍ وجُمود.
• • •
إذا قيل وقفة رَجُلٍ؛ فإشارة إلى ما قدَّم الشخصُ المَعنيّ بها من دعمٍ وقت الشِدَّة، وما أبدى من استعدادٍ لتولّي المَسئولية. هي وقفةٌ فيها شرفٌ واعتزاز؛ لا تخلّي ولا تهرُّب ولا نكوص، والحقُّ أن كثيرَ الصفاتِ النبيلةِ يُنسَب للرجال، وغالبُ القيمِ الإيجابيةِ يجري عزوُها إليهم؛ رغم ما للنساءِ من مآثر لا تحُصى، وأكم من مَواقف تطلَّبت فيضًا من التكاتُف والصلابةِ والجَلَد، واستوجبت شجاعةَ التحمُّل وقوةَ المُساندةِ بل والتضحية؛ قد اضطلعت بها امرأةٌ دون رجال، وأبلت فيها أحسنَ بلاء، وأنجزتها على خيرِ ما يكون.
• • •
أشهر الوقفاتِ في المَوروث الدينيّ وقفةُ عرفة؛ حيث يتلاقى الحجيجُ على الجبلِ شرق مكة في وقتٍ مَعلوم، فيقومون بالإكثار مِن الدعاء والابتهال، وذاك ركنٌ أصيلٌ من أركان الحَجِّ لا يكتملُ دونه، ووقفةُ التاسع من ذي الحجة يعقبها بالطبع أولُ أيام العيد. عن كثيرِ الأصدقاء والصديقاتِ مِمَن خاضوا التجربةَ؛ أن طقسَ الحجِّ تبدَّل تدريجيًا على مدار العقودِ الماضية أي؛ في زمن ما قبل الجائحة وتبعاتها، ففَقَدَ دفقًا من روحانيتِه وتحوَّل إلى مَظهرٍ من مَظاهرِ البذخِ والتبذير؛ لا يمتُّ إلى مفاهيمِ الزُهدِ، والتقشُّف، والتجرُّد من زوائدِ الحياة ورفاهتها بِصِلَة.
• • •
الوقفةُ العسكرية في أرجاءِ العالمِ واحدة. تتعدَّد اللغاتُ واللهجاتُ التي تأمر بالصفا والانتباهِ واتخاذِ وضع الاستعداد؛ لتُسفِر في نهايةِ الأمرِ عن استجاباتٍ مُتشابهة، وحركاتٍ مُتناغمة؛ تُؤدَّى بالتتابُع ذاته. يسمع الجنودُ النداءات العالية فينفذون بحماسةٍ، وتصطكُّ أقدامُهم بالأرض فترجُّها، وتُعلِن عن الوجود والتأهُّب؛ لا يُهم الهدفُ، إنما الجاهزية لتنفيذه.
• • •
لبعضِ الأشخاصِ وَقفةٌ تميزهم؛ فهذا مَفرود الظَّهرِ وهذا مَحنيٌّ قليلًا، وذاك واسِع الصدر مُباعد ما بين جذعِه وأطرافِه كأبطال كمالِ الأجسام، وآخر مُتراخٍ في وقفتِه كسول. قد يُعرَف الواحدُ فينا مِن هيئته دون أن تُرى ملامحُ وجهِه، ومن على مسافة بعيدة قد يصيح عابر: هذه وقفةُ فلان.
• • •
في رواية الراحلِ العظيمِ علاء الديب؛ وَقفةٌ قبل المُنحَدَر، يأتي العنوانُ الفرعيّ ليُخَصِّص للأحداثِ زمنَا ما بين مَطلع الخمسينيات ومَطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وتلك فترة قد شهدت في تاريخِنا وقفاتٍ مُتعدِّدة، ومُنحدراتٍ عنيفة وعميقة، سقط فيها كثيرون وتمزَّقت أرواحهم، ومنهم مَن لم يتمكَّن مِن رَتق الثقوبِ التي أصابتها. الروايةُ مَعزوفةٌ رفيعةٌ من الشجنِ الأصيل، أقرأها مرارًا ولا أفقد بها شغفي ولا يخفُت حنيني للكلمات، ولعلني لم أعجب حين وَجدت في مكتبتي نسخًا ثلاثة منها.
• • •
لم تزل العلامةُ الصفراءُ في مكانِها؛ على مطلع الكوبري، ولم يزل سائقو الميكروباص مُلتزمين بالوقوف أسفلها.