مغاغة.. والتاريخ المشرف لأبنائها الأقباط وليبيا وإمكانيات التفاهم - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 6:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مغاغة.. والتاريخ المشرف لأبنائها الأقباط وليبيا وإمكانيات التفاهم

نشر فى : الأحد 4 يونيو 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الأحد 4 يونيو 2017 - 9:05 م

مدينة مغاغة ــ المنطقة التى أنتمى إليها ــ كانت فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى جزءا مضيئا من مصر التى كانت، فقد بنى فيها المسلم كنيسة وبنى فيها القبطى مسجدا، وكانت مدينة صغيرة جميلة منسقة يتوسطها منتزه به كشك تصدح فيه الموسيقى كل أسبوع وكانت الشوارع النظيفة تطل عليها بيوت من طابقين أو ثلاثة، وبعض القصور ذات الطراز الإيطالى، ومحال بقالة تملكها الجالية اليونانية الصغيرة ومقهى بروتس اليونانى.. هذا التنوع الذى يضفى الحيوية على المجتمع والذى افتقدناه فى جميع أنحاء مصر.. وليس فقط فى مدينة صغيرة فى شمال الصعيد التى أصبحت الآن – شأن معظم الأنحاء الأخرى.. قطعة من القبح العشوائى الذى يلطخ خريطة مصر.
أما الذى بنى المسجد فهو «قلينى باشا فهمى» أحد أبناء مغاغة وهو واحد من أقباط مصر البارزين وكان يدير أملاك الخديوى إسماعيل (مليون فدان) أى ما كان يسمى الدائرة السنية وكان لقبه باشكاتب الدايرة السنية، وقد تبرع بمساحات كبيرة من أراضيه وبنى عليها أربعة مدارس وكنيسة ومسجدا ثم مستشفى مغاغة العام الذى استقبل جثث شهداء وضحايا العمل الإجرامى البشع الذى استهدف زوار دير الأنبا صموئيل..
كما يحضرنى الآن أحد أسماء الرموز القبطية المشرفة فى مغاغة هو الدكتور فؤاد مليكة ــ رحمه الله ــ الذى درس الطب فى أرقى جامعات بريطانيا ثم عاد مع زوجته الإنجليزية ورفض أن يعمل فى القاهرة وأصر على العودة إلى مغاغة حيث عاش وفتح عيادته لخدمة الفقراء بسعر مخفض جدا بل كان يعطى بعضهم الدواء، وكان أحيانا يقضى يوم عطلته فى المرور على القرى لمعالجة الفقراء مجانا، وقد توقف عن ذلك بعد أن وجد أن الأعيان يستغلون وجوده لفائدتهم وليس لفائدة الفقراء.
أما المسلم الذى بنى الكنيسة فهو المرحوم محمد عبدالعظيم المصرى ابن أحد مؤسسى بنك مصر فقد تبرع للرهبان الفرنسيسكان بقطعة أرض وتحمل تكلفة إقامتها والمدرسة والعيادات والخدمات الاجتماعية الأخرى الملحقة، كما أتاح جده ــ زميل سعد زغلول فى الكفاح وأحد قادة ثورة 1919 ــ الأرض اللازمة لإنشاء فرع لشركة مصر لحليج الأقطان.
أردت بالإشارة إلى هذه النماذج التذكير بمصر التى كانت...
***
أما مركز العدوة، الذى ارتكبت على أرضه جريمة الدير البشعة، فهو المركز الوحيد فى الصعيد ــ باستثناء الفيوم الذى يعد واحة ــ الذى لا يقع على النيل ولا يمر به خط السكة الحديدية الذى يربط القاهرة بأسوان.. فقد كان جزءا من مركز مغاغة وكان يمثل أطرافه الغربية الموغلة فى الصحراء خاصة تلك التى تقع غرب بحر يوسف، وهى ترعة متسعة تقسم المركز إلى شطرين.. غرب وشرق ولم يكن هناك كوبرى يصل بين المنطقتين فكان سكان الغرب الصحراوى يتجشمون مشقة كبيرة فى قضاء مصالحهم.. وقد عاشوا أحقابا من الزمان وليس فى منطقتهم طريق واحد ــ معبد أو غير معبد ــ بل مدقات ودروبا، ولا توجد مدارس ولا مستشفيات ولا وحدات صحية ولا مياه نقية ولا كهرباء ولا تواجد لأى مكتب حكومى من أى نوع بما فى ذلك الشرطة.
وكانت أراضى العدوة من أراضى الحياض حيث لا يوجد بالمنطقة نظام للرى، أى لا يوجد ترع أو مصارف، فكانت تغمر المنطقة بمياه الفيضان وتظل هكذا شهورا، وعندما ينحسر الفيضان يلقون بالبذور ويغطونها بالطمى الذى تركه الفيضان ثم يتركونها حتى الحصاد، كان السكان يجاهدون الفيضان مع ما يسببه من انتشار البعوض والملاريا، ويجاهدون رمال الصحراء الزاحفة على أراضيهم من الغرب.
هذه المنطقة التى تركت أحقابا من الزمن فى ثنايا النسيان هى بيئة خصبة لاستقبال الفكر الإرهابى والفكر المتطرف فى أى اتجاه.
***
قد يكون الإعلان عن صلة الجماعات الإرهابية فى ليببا بمذبحة دير الأنبا صموئيل والضربات الجوية لمعسكرات تدريب الإرهابيين قد خففت من لوعة الألم الذى اعتصر قلوبنا بعض الشىء، ولكن يجب أن نعترف بأن المنفذين والأيدى التى ضغطت على الزناد هى أيدٍ مصرية، حتى ولو كان التمويل والتخطيط والتدريب وسيارات الدفع الرباعى والملابس والأحذية البوت، كلها من إمداد البؤرة الإرهابية فى ليبيا، فلم يقل أحد من الذين نجوا بما فى ذلك سائق الأوتوبيس أن اللهجة كانت ليبية أو غير مصرية، ثم إن دير الأنبا صموئيل لا يبعد عن الطريق الصحراوى الغربى سوى 30 كيلومترا؛ أى ليس موغلا فى الصحراء أو بالقرب من الحدود الليبية كما جاء فى بعض التقارير، ولا يمكن عقلا أن يكون رتل السيارات الثلاث ذات الدفع الرباعى القادم من ليبيا قد اختار منطقة العدوة دون أن يكون له حاضنة فيها مكنته من أن يذوب بين السكان بعد ارتكاب جريمته.
***
وقد ذكرت قناة الجزيرة بعد الضربة التى وجهها سلاح الطيران المصرى لقواعد المنظمة الإرهابية التى تسيطر على مدينة درنة أن مصر اتهمت داعش بهذا العمل وداعش اعترف بمسئوليته عنه ولكن مصر انتقمت من مجلس شورى مدينة درنة الذى طرد داعش من المدينة.. فقلت فى نفسى شران تظاهرا وتقاتلا وانتصر أحدهما على الآخر.
وفى اعتقادى أن داعش لا صلة لها بالجريمة فقد أصبح من سماتها المسارعة بتبنى كل عمل إرهابى حتى إنها تبنت ما قامت به عصابة الإجرام العادى فى الفلبين التى تسمى نفسها «موت» وهى انسلاخ من جماعة أبو سياف التى تخصصت فى اختطاف الأجانب والحصول على الفدية والتى «غزت» مدينة ماراوى عاصمة إقليم الحكم الذاتى المسلم فى جنوب الفلبين، وجميع سكانها من المسلمين ورفعت علم داعش، واللافت للنظر أن حكومة الفلبين ذكرت أن المهاجمين كانوا يضمون عناصر من أندونيسيا وماليزيا ( أى ليسوا فلبينيين).
***
السلطة وإن كانت جائرة خير من اللاسلطة، والذى نشاهده فى ليبيا الآن خير دليل على ذلك، وباعتقادى أن الوضع الليبى الحالى أخطر على مصر من سيناء..
فداعش على وشك أن يفقد «عاصمته» الموصل كما تجرى الاستعدادات لإخراجه من الرقة.. ويخشى المراقبون من انتشار عناصره فى مختلف الأرجاء، وتقديرى أن وجهتهم الأولى ستكون ليبيا ثم أوروبا ( يتحسب الأوروبيون كثيرا لهذا الاحتمال )...
لذا فعلينا إعطاء المشكلة الليبية ــ دولة الجوار التى تتجاوز حدودها معنا الألف كيلو متر ــ الاهتمام الذى تستحقه وعلينا أن نقوم بدور نشط للتوصل على الأقل للحد الأدنى من التعاون بين طبرق وطرابلس.. بداية من احتواء التوتر الذى نشأ نتيجة القيام بالضربات الجوية دون علم حكومة الوفاق الوطنى وهى الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا..
صحيح أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على أنه ليس فيه ما ينتقص من حق أى دولة فى الدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت لعدوان مسلح (المادة 51 التى استندنا إليها فى إخطارنا لمجلس الأمن).. إلا أن توصيف الجريمة فى ظل هذه المادة تكتنفه الكثير من المشكلات لا مجال للتعرض لها فى هذه المساحة..
فالمهم الآن هو التحرك تجاه حكومة الوفاق الوطنى قبل أن يترسخ الاعتقاد بأننا تحركنا لمساعدة الفريق حفتر بتوجيه الضربات إلى البؤر المناوئة له، وأعتقد أن الفرصة ما زالت متاحة لإمكانيات التفاهم، فعلى الرغم من أن بيان المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الوطنى قد أدان انتهاك سيادة بلاده واستهجن قيام الطيران المصرى بقصف مواقع داخل ليبيا دون التنسيق مع السلطة الشرعية، فإنه ترك الباب مفتوحا للتفاهم حيث تضمن البيان إدانة قوية لحادث المنيا الإرهابى وعبر عن تطلعه إلى «التنسيق الكامل فى ظل التحالف الدولى الإسلامى لمواجهة قوى الشر التى تستهدف بلادنا (ليبيا) وجيراننا».
***
لقد نجحت مصر منذ أقل من شهرين فى جمع الفرقاء الليبيين وتوافقهم على الأسس الرئيسية للثوابت الوطنية وعلى رأسها الحفاظ على وحدة البلاد، فلنسارع إلى تنشيط المسار والبناء على بيان 14 فبراير الماضى وعمل كل ما من شأنه كسب ثقة جمع الفرقاء حتى يتم قبول الدور المصرى كوسيط نزيه.

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات