لم أفاجأ على الإطلاق بأحداث «جمعة لم الشمل» التى تحولت إلى «جمعة ردع» من التيار الإسلامى لخصومه بإظهار قوته العددية وقدرته على الحشد.
لم أفاجأ وأنا الذى لا أحسب فى عداد الناشطين السياسيين أو أصحاب الخبرة الحزبية أو الممارسة السياسية، وعندما تم التوصل إلى اتفاق «لم الشمل» يوم الثلاثاء قبل الماضى وانطلقت برامج الفضائيات تتحدث عن عبقريته جلست أسمع وأرى ولسان حالى يقول: «أفلح إن صدق»، وعجبت لبعض القيادات التى قضت فى العمل السياسى الميدانى ردحا من الزمان كيف كان يتحدث بهذا الانبهار عن اتفاق كنت واثقا من أنه لن يُنفَذ لسابق الخبرة بسلوك التيار «الإسلامى»، وأدركت ساعتها أحد الأسباب الرئيسية فى أن الأحزاب التى تتصدرها هذه القيادات قد بدأت ورقية وانتهت كذلك، لأنها استبدلت بالنضال السياسى الحقيقى الذى يتضمن حركة وتنظيما نضالا «مكتوبا» أو على شاشة الفضائيات منبت الصلة بالجماهير. ومن أسفٍ أن هذا المرض العضال بدأ يصيب الحركات الثورية الوليدة، فانقسمت كما انقسمت تلك الكيانات من قبلها، واكتفت بالإدلاء بالآراء المتشددة دون أدنى قدرة على التأثير فى جماهير الثورة.
حققت «جمعة الردع» أهدافها دون شك للتيار الإسلامى، وإن بدا السلفيون أكثر الرابحين فيها، فقد حضروا بوزن عددى يكفى لبث «الرعب» فى صفوف خصومهم، ولم يكن هذا الوزن العددى ليحدث دون قدرة متميزة على الحشد، وتكفى الإشارة للحافلات التى أفرغت كل المحافظات تقريبا من السلفيين ونقلتهم إلى ميدان التحرير كى يحقق «الردع» أغراضه، بحيث يمكن الافتراض بأن «ميزان القوى» كما ظهر فى «جمعة الردع» مفتعل على أساس أن السلفيين الذين شاركوا فى تلك الجمعة هم بقدر من المبالغة «كل سلفيى مصر». أما القوى المدنية فلا أحد يعرف على وجه اليقين وزنها، وقد يمكن الزعم بأنها ذات مكانة فى أوساط النخبة المثقفة، لكن وضعها غير معلوم فى أوساط الجماهير.
• • •
قد لا ينطوى «ميزان القوى» الذى كشفت عنه «جمعة الردع» فى حد ذاته على خطورة، فالديمقراطية فى النهاية تعنى حكم الأغلبية، لكن الخطورة مفزعة فى توجهات «الأغلبية» التى لا تنبئ بخير إذا تولت الحكم، من الطبيعى أن يكون هناك خلاف حول مدنية الدولة أو إسلاميتها، ولكن الخطير هو العبث برموز الدولة المصرية وعلى رأسها العلم الذى تغيرت ملامحه بحذف النسر وإضافة عبارات دينية لا يمكن لأحد أن يعترض عليها، كذلك فإن رفع الأعلام السعودية يثير تساؤلات مشروعة حول ما إذا كانت السعودية هى «الإسلام» ونموذجها هو النموذج الإسلامى. ومن الطبيعى أن يرفض الإسلاميون المبادئ «فوق الدستورية»، ولكن الخطير أن تتردد كثيرا عبارة «شاء من شاء وأبى من أبى» فى خطب رموزهم، أو وصف من يطالبون بتلك المبادئ بأنهم أعداء للشعب والوطن ينفذون أجندة خارجية. ومن الطبيعى أن يشاركوا فى «جمعة الردع» لعرض مطالبهم أو فرضها، ولكن الخطير أن يكيف هذا العمل على أنه جهاد فى سبيل الله بما يعنى أن مخالفتهم تفيد ضمنا الانتماء إلى معسكر الشيطان أو الكفر، وهو ما يتسق مع دعوة قيادى بالجماعة الإسلامية متظاهريه لعدم ترك الميدان «لأعداء حكم الله». ومن الطبيعى أن يرفض الإسلاميون العلمانية والليبرالية، ولكن الخطير هو الحكم القاطع عليهما بالعدم وربطهما بالصهيونية، والحديث عن التعامل مع أنصارهما بنهج الإرغام: «قادم يا إسلام رغم أنف الليبرالية والعلمانية والصهيونية»، أو «اسكت يا علمانى الشعب المصرى كله إسلامى». ومن الطبيعى أن يختلف السلفيون مع الصوفيين لكن الخطير أن تمنع لافتاتهم عند حواجز التفتيش.
• • •
إن كل ما سبق يفضى بنا إلى نتيجة واضحة كسطوع الشمس، وهى أنه عندما تفضى الديمقراطية بهؤلاء إلى حكم مصر فسوف يختفى مفهوم «الأقلية» أصلا، وسنعيش فى ظل نظام مطابق لما كان حالنا عليه قبل الثورة شبيه بكل النظم الفاشية التى عرفها التاريخ الحديث، وفى هذا رسالة مهمة لكل من يعنيه الأمر، وقد آن الأوان لكى تهتم القوى المدنية ببناء قواعدها الشعبية، وإن كان حالها هنا يذكرنى بالأرنب فى قصة السباق بين الأرنب والسلحفاة. كذلك أعتقد أنه آن الأوان أيضا كى تتوقف الطليعة الشبابية لثورة يناير عن المطالبة باحتكار توجيه الثورة، وأن تعترف بأن الثورة تحتاج مشاركة الكل خاصة بعد أن أظهرت هذه الطليعة قصرا شديدا فى النظر فى إدارة المرحلة الانتقالية. وليحمى الله الوطن من كل سوء.