ليس لدينا أغلى من أولادنا، ولا يهمنا فى الحياة سوى أن نرتقى بهم، ولن يتم ذلك إلا عن طريق التعليم! رددت هذه الكلمات إلى نفسى وأنا أخبر مدارس أولادى هنا فى الولايات المتحدة أن هذا هو الأسبوع الأخير لهم حيث سيعودون إلى مصر للحاق بالعام الدراسى الذى بدأ لتوه فى المحروسة. لم يمكث الأطفال هنا سوى عام من الزمان، ولكن استطعت خلال هذا العام أن أرى تطورا ملحوظا فى شخصياتهم وطريقة تعاملهم معنا نحن الآباء ومع البيئة المحيطة بهم، فضلا عن تحسن لغتهم الإنجليزية لا شك!
فى الأسبوع الماضى كنت أقود سياراتى إلى حيث مدرسة ابنى آدم البالغ من العمر ٥ سنوات لإيصاله، ولأن المرور بطىء بعض الشىء فقد شغلت بعض الموسيقى حتى وصلنا، ومع موعد عودته رأيت أن أقوم بتشغيل نفس الموسيقى مرة أخرى فى طريق عودة لا يخلو من الزحمة المرورية أيضا، فإذا به يطلب منى بثقة وحزم فى الوقت نفسه أن أتوقف عن تشغيل هذه الموسيقى لأنها لا تعجبه، فرددت عليه بأنها تعجبنى أنا، فإذا به يعطينى درسين لم أستوعب أن يخرجا من طفل فى عمره، فقد قال لى بمنتهى الثقة إننا فى مكان مشترك «يقصد السيارة» وبالتالى فإما أن نتفق على نفس الموسيقى أو نضع السماعات فى آذاننا! وحينما قلت له مشاكسا لماذا لا تحب هذه الموسيقى مادام أبوك يحبها، فقد أعطانى الدرس الثانى بنفس الثبات والثقة قائلا بإنجليزيته الطفولية «نحن كائنين مستقلين ولكل منا مشاعر مختلفة»!! لم أصدق أذنى وسألت زوجتى إن كانت قد رددت أمامه كلمات من قبل «مشاعر» أو «مختلفة» أو «كائنات مستقلة» فأكدت أنها لم تفعل ولكنهم يتعلمونها من مدرسيهم لافتة نظرى إلى المناهج والقصص التى تناسب طفولتهم ولكنها فى نفس الوقت تزرع فيهم مبادئ الثقة والاستقلالية والحرية!
***
فى ظل هذه المشاعر المختلطة بين توديع الأبناء للحاق بمدارسهم فى مصر وبين حزنى على أنهم لن يكملوا الطريق فى ظل هذا التعليم الحكومى المنفتح الذى زرع فيهم خلال فترة وجيزة قيم ومبادئ الاستقلالية والحرية، فإذا بالأخبار تداهمنى من مصر بشأن الخطة الرسمية التى اعتمدتها وزارة التربية والتعليم للتطبيق تدريجيا بدءا من العام الدراسى الحالى باسم «برنامج نشر ثقافة الأمن الفكرى فى المدارس»! عبارة «الأمن الفكرى» وحدها كانت كفيلة بإثارة مخاوفى من السياسات التى يتبعها النظام السياسى القائم فى مصر، ولكن وما إن دلفت إلى تفاصيل هذا البرنامج والذى نشرته جريدة «المصرى اليوم» فى الأول من أكتوبر الحالى فإنى ضربت كفا على كف مع تفاصيل ومبادئ وآليات فى ظاهرها مشرقة وفى كل تفاصيلها جرس إنذار بمزيد من الفاشية والرجعية والقتل العمد لروح وعقول ونفسيات أطفالنا ليخرجوا إلى المجتمع خائفين ومفزوعين ومشتتين غير قادرين لا على إنتاج ولا على إبداع ولا أعرف لصالح من يتم كل ذلك!
التفاصيل التى أوردتها «المصرى اليوم» عن «الاستراتيجية» بها كلام محدد عن أن الهدف منها هو محاربة التطرف ومقاومة الغزو الثقافى، وغير ذلك كلام عام ومهلهل عن حماية الأطفال من القيم الدخيلة وغرس قيم وثوابت المجتمع فيهم لتوفير «السكينة» و«الاستقرار النفسى» و«الاطمئنان القلبى» عن طريق إنشاء نوادى للأمن الفكرى للحفاظ على مكونات «الثقافة الأصيلة» لمواجهة «التيارات الثقافية الواردة» أو«الأجنبية المشبوهة» وصيانة عقول أفراد المجتمع ضد أى «انحرافات فكرية أو عقيدية» مخالفة لما تنص عليه تعاليم «الإسلام الحنيف» أو«أنظمة المجتمع وتقاليده»!!
بقليل من البحث اكتشفت أن الموضوع ليس جديدا تماما، وأنه مطروح منذ العام الماضى ولكن يبدو أن الوزير الجديد قد رأى أن وقت التطبيق قد حان، ولاحظت أن موقع «مدى مصر» قد نشر تحقيقا عن الموضوع فى الأول من سبتمبر عام ٢٠١٤ بعنوان «الأمن الفكرى فى المدارس: تنظيم أم رقابة؟» لافتا النظر إلى تطبيق هذه الاستراتيجية فى المملكة السعودية وفى ثنايا الموضوع انتقادات للمشروع كونه أداة للرقابة وخلق مجتمع مشوه لا علاقة لها بمحاربة التطرف أو تحقيق الأمن! وبمراجعة محتوى الشبكة العنكبوتية فلم أجد بالفعل أثرا لما يسمى بالأمن الفكرى سوى فى بعض المواقع والجامعات التابعة للمملكة السعودية، فضلا عن رسالة ماجستير تمت مناقشتها فى جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بعنوان «دور الإدارات المدرسية فى تعزيز الأمن الفكرى للطلاب» بالإضافة إلى مقال فى موقع سعودى آخر نشر بواسطة الدكتور مسعد محمد زياد فى عام ٢٠٠٦ تحت عنوان «دور المدرسة والمعلمين فى تعزيز الأمن الفكرى لدى الطلاب»، وتكاد تكون الخطة التى نشرتها المصرى اليوم نقلا عن وزارة التربية والتعليم المصرية مطابقة لمحتوى المقالة الأخيرة ولا أعلم هل كلفت الوزارة نفسها بتدقيق المراجع أم أنها ستقع فى مخالفة السرقات الفكرية!
***
ما يهمنى هنا هو أن أسجل خمس ملاحظات رئيسية بخصوص هذه الاستراتيجية:
أولا: هذه ليست استراتيجية «للأمن الفكرى» ولكن الأصح قولا أنها استراتيجية «للقهر الفكرى» لن توفر أمننا ولن تحارب تطرفا ولكنها ستخلق مجتمع تعليمى ملىء بالمخبرين من الطلاب والمعلمين والإداريين على السواء!
ثانيا: هذه الاستراتيجية سيكون لها أثر سلبى فادح على العملية التعليمية المنكوبة منذ سنوات، وستخلق طلابا مشوشين فكريا ونفسيا، يعيشون تحت الوصاية والخوف وعدم الثقة تجاه كل ما هو أجنبى أو وافد أو غير متطابق مع مواصفات«الفكر الوطنى»، يخافون من الاختلاف وتعوزهم قدرات إدارة التنوع وهو ما من شأنه خلق مستقبل بائس لمجتمع عانى ويعانى كثيرا ولا حاجة له بالمزيد من المآسى!
ثالثا: هذه الاستراتيجية لا تحترم أصلا التنوع الثقافى والدينى الموجود فى مصر، فليس كل طلاب مصر مسلمون حتى نعتبر «بنص الاستراتيجية» أن العقائد المختلفة عن الدين الإسلامى الحنيف هى انحراف يجب محاربته، فمصر غير السعودية ولا أعتقد أن النظام التعليمى فى المملكة من النماذج التى يمكننا الاحتذاء بها فى مصر!
رابعا: تطبيق الأمن القومى لا يكون بوصاية الدولة الأخلاقية على البشر، فالحديث عن الدور الأخلاقى للدولة أو بشكل أكثر دقة «للسلطة» هو غطاء لتغول الأخيرة على حياة الأفراد والمجتمعات وتقييد حرياتهم المختلفة وتحويلهم إلى مجموعة من التروس عديمة الفائدة فى آلة ضخمة ولكنها غير منتجة إلا لكل ما هو ردىء وعديم القيمة!
خامسا: هذه الاستراتيجية تأتى متوازية مع عملية منتظمة تمشى على قدم وساق لعسكرة المجتمع وزيادة سطوة الاعتبارات الأمنية على نظيرتها السياسية والمدنية، وهو ما من شأنه أن يزيد مشاكل مصر تعقيدا ويبعدنا عن الطريق الصحيح والحديث للتقدم والتنمية، ولن يتحقق الأخير سوى بمعادلة توازن الاعتبارات العسكرية ــ الأمنية مع نظيرتها السياسية المدنية وللأسف نحن نبتعد كثيرا عن هذا التوازن المطلوب!
***
انظر دائما إلى وجوه التلاميذ الصغار هنا، فأجد بها حيوية وثقة وانطلاق وتحرر ونزعة فردية اعتبرها أساس تقدم وتحضر وتنمية عن طريق الاستثمار الحقيقى فى أجيال المستقبل، وانظر إلى ما يحدث فى مصر فأشعر بالشفقة والخوف على مستقبل أولادى وعلى مستقبل مصر! كيف تبنى مصر وهى من نتغنى ونفخر بأنها مهد الحضارات ومعلمة البشرية ومقصد سياح العالم وهى تخلق أطفالا مشوشيين وخائفين وغير واثقين من أنفسهم وهم يتعاملون مع تلك الثقافات والأجناس والأمم الأخرى؟ كيف تبنى مصر ونحن نصنع الخوف بحرفة شديدة ونأصله فى نفوس أطفالنا؟ كيف تبنى مصر ونحن نريد لأبنائنا أن يكونوا نسخا رديئة من حكائيات مبتذلة عن الوطنية والأخلاق والقيم؟ وهم متشككون فى كل من حولهم؟ وهم غير قادرون على تقدير أهمية التنوع والاختلاف؟
أدعو كل المهتمين بالشأن العام إلى نسيان خلافاتهم السياسية والشخصية والانخراط فى حملات إعلامية ومجتمعية وسياسية لإيقاف هذا العبث بمستقبل أطفالنا، كفانا صنع أجيال مشوهة، علينا أن نحمى هذا الجيل من كل هذا الجنون لعله يصنع مصر التى طالما تمنيناها ولم نقدر على تحقيقها.