يُحكَى أن وراء المَقُولة الشهيرة "القانون لا يحمي المُغفَّلين" رجلًا فقيرًا، أراد أن يُثري، فنشر إعلانًا يطلُب مِمَن أراد مثله الثراءَ، أن يُرسل إليه دولارًا واحدًا. انهالت عليه الملايين، وبعد فترة نشر قصَّتَه فاغتاظ ضحاياه واتجهوا لمُقاضاتِه، لكنهم لم يستطيعوا حياله شيئًا. أكَّدت المَحكمةُ أنهم كانوا مُغَفَّلين، وأن القانونَ لا يمكنه حمايتَهم ولا استعادة ما ضاع مِنهم. هناك أناسٌ غافلون عن أنفُسِهم، أو غافلون عما يحدُث حولهم، وهناك الغافلون عن مسارات أطماعِهم، وعن أطماعِ الآخرين.
***
غَفلَةُ المَرءِ في مَعاجم اللُغةِ العربيةِ هي غَيْبَةُ الأمورِ عَنْ بَالِه، فإذا قيل غَفَل عن شيء؛ فقد تركه وسها عنه، والمُغَفَّلُ هو مَن لا فِطْنة له، وهو كذلك مَن لا يُرجى خَيره ولا يُخشى شرُّه. يُوصَم الرجلُ بأنه غُفْل إذا لم يَدرِ بما عِنده، وإذا كانت تجربتُه في الحياةِ ضحلةً ضئيلة. يُقال عن الشاعر أنه غُفْل إذا جَهَلَه الناسُ، ويُوصَف الشِعْر نفسُه بالغُفْل إذا لم لا يُعرَف قائله، أما الأَرضُ الغُفْل؛ فتلك التي لم تُمْطَر ولم يمسّها ماء. إذا تَحَيَّن واحدٌ غَفلةَ الآخر قِيل إنه استغفَلَه، وإذا صاح به: بتستغفلني؟ فالمُراد مِن السؤال غَضَب واستنكار إذ لا تنطلي مُحاولَةُ الخِداع، ومبعثُ الاستياءِ ليس الخُدعةَ في حدِّ ذاتها، بل الظنّ في غَفلَة وحُمق المَقصودِ بها.
***
إذا غابَ واحدٌ عمَّا حَوله بُرهة قال: "عيني غَفّلت"، والمَعنى أن النومَ غَلَبه عن غير قَصد، وأوقعه في حبائلِه. العَينُ هي المُتَّهمةُ بينما العقلُ أصدَرَ الأمرَ، ولا قدرة لعضو آخر على العِصيان.
***
يَحفَل كتابُ "أخبار الحَمقى والمُغفَّلين" لأبي الفَرجِ بن الجَوزِي؛ بنوادرٍ وطُرف عُرِف أبطالُها بالاسم والكِنية، واشتهروا في أزمانِهم لفرط ما ارتكبوا مِن حَماقاتٍ مُدهشة. إذا نظر المَرءُ مِن حَولِه الآن، لرأى مادةً تصنع مُجلَّداتَ على غرارِ هذا الكتاب؛ فقد صَارَ الواقعُ أرضًا خصبة، تجمع حكاياتِ المُغفَّلين وأفعالَ الحَمقى.
***
يُستخدَم تعبيرُ "المُغَفَّل المُفيد" في حَقلِ السياسة حاملًا السُخريةَ والإهانة؛ إذ يَصِفُ شخصًا جرى استغلاله مِن قِبل حركةٍ سياسيةٍ ما، دون أن يُدرك بدقَّة طبيعتَها وأهدافَها، بل وربما ضَحَّى في غَفلَته مِن أجلِها. يُقال إن هذا التوصِيف ظَهَر في فترةِ الحَرب الباردة، ويَنسِبه بعضُ المؤرخين إلى لينين، أما وقد مَرَّ على صكّه تاريخٌ طويل؛ فالحاجةُ إلى استعمالِه لم تَخبُ بعد؛ إذ المُغفَّلون المُفيدون في هذا العصر كُثر.
***
ثمَّة أناسٌ يبدون مُغفَّلين؛ لكنهم في حقيقةِ الأمرِ على درَجةٍ عاليةٍ مِن الذكاء، يتخفُّون وراءَ ستار الغَفلَة، ويمارسون ما حلا مِن ألاعيب، يُغيِّرون العالمَ فيما يَحار أمامَ تصرُّفاتِهم الآخرون. عُدَّ جُحا مِن المُغفَّلين فيما المَروي عنه يَشِي بحنكَةٍ ونَباهَة، ويبدو أن خُصومَه ألصقوا به التُهمَة، ووصموه بالغَفلةِ وهو مِنها بريء.
***
حين احتلَّ رجلُ الأعمالِ الشهير مَوقعَ رئيسِ الولايات المُتحدة، سَخَر مِنه كثيرون إذ رأوه أدنى شأنًا من المَنصِب، وأقلَّ حصَافةً مِن حَملِ المَسئولية، وقد ترجَمَت أفعالُه الظُنونَ، وكَشَفَ خطابُه عن غَفلَةٍ بالقواعد المُتَّبعة والأصولِ المَرعية، لكنه رغم هذا وذاك؛ يُرسِّخ يومًا بعد يومٍ أقدامَه، ويَمضي غير عابئٍ بما تدهَسُ في الطريق.
***
أحيانًا ما يَتغافَل المَرءُ ويَصطَنِع الجَهلَ وعدم الدِراية؛ مُعطيًا المُحيطين به فُرصةَ إصلاحِ وَضعٍ خاطئ. يَغُضُّ البَصَرَ عمّا رأى ويُغلِق أذُنيه عمّا سمع، ويُفسِح المَجالَ للتراجُع؛ لكن تَغافُله لا يعني ضعفًا ولا يعكس عجزًا، بل حلمًا وإيمانًا بقُدرتِه على تصحيحِ الأمُورِ ما أَوشَكَت على الإفلات.
***
يحدث أَمرٌ في سرعةٍ غير مُتوقَّعه وقبل أن ينتبه له أحدٌ؛ فيُقال إنه وَقَع في غَفلَةٍ مِن الزَّمن. ينطبق القولُ على ما يجري في حيِّ مِصر الجَديدة؛ حيث الأرضُ تُهان، والأشجار العتيقة تُهدَر، وقضبان المترو ذات التاريخ الطويل تُجتَثُّ مِن مُستقرِّها، والشوارع تكتسبُ أبعادًا قبيحة. مَحوُ الأثَرِ ليس بعبقريَّةٍ أو إبداع، فقديمُ العواصِم والمُدن في شتَّى البلدان تكتسِبُ قيمةً بمُرور الوقت، وتجدُ مَن يُحافِظ عليها ومَن يُدافِع عن أدَقِّ حصاةٍ وأصَغر حَجَر. قد يَغفَل الزَّمنُ لبرهة عن سَفيه الأفعال؛ لكن الذاكرةَ تبقى عَصيَّةً على الإزالة.
***
عُرِضَ فيلم "المُغَفَّلون" في النِصف الثاني مِن التسعينيات، وقَدَّم مُخرجُه لارس فون ترير مَجموعةً مِن الأفراد الموسرين غريبي الأطوار؛ الذين يجدون فرصةً للتَحرُّر النفسيّ مِن عِلَلهم عبر مُمَارسة سلوكيات حَمقاء غَير مَقبولة، يَكُفُّون عنها بعد فترة، ويرفضون دَمجَها في تفاصيلِ حيواتِهم اليَومية؛ عدا امرأة واحدة تأخُذ الأمرَ على مَحمَلِ الجِدِّية؛ ففي الغَفلةِ التي اختبرتها مَعهم خلاصٌ مِن حياتِها الشاقة وصدماتِها الحقيقية، في الغَفلَة راحةٌ وقتية.
***
نقع رغم التزامِ الحَذَر في مَآزِق مُتكرِّرة، ونَتَّهم أنفُسَنا بالغَفلَة؛ فبعضُ الأشياءِ تبدو في ظاهرِها لامعةً جميلةً، فيما باطنها عَطِنٌ كريه. غَفلَةُ العقلِ واردةٌ، لكن بعضَ الناسِ يتغافلون عمدًا عن إدراك مَصائبهم، يُدافعون عن سلامِهم النفسيّ بإنكارها؛ وعند الإفاقةِ يكتشفون أن تَغافلَهم قد فاقم مآسيهم وزادها، وأن المُواجهةَ وإن صَعبَت في حينها، فنتائجها أهون على المدى البعيد.