محصلة التشريعات الصادرة فى الآونة الاخيرة تعنى واقعيا أن الدستور الجديد اصبح فى بعض جوانبه معطلا إلى حين إشعار آخر، كما يتضح فيما يأتى:
• صدور القانون رقم ١٣٦ لسنة ٢٠١٤ فى الأسبوع الماضى والذى أدخل فى اختصاص المحاكم العسكرية الجرائم التى يرتكبها المدنيون ضد المنشآت العامة، برغم تعارض ذلك مع المادة (٢٠٤) من الدستور، والتى تحصر اختصاص القضاء العسكرى بالنسبة لمحاكمة المدنيين فى الجرائم «التى تمثل اعتداء مباشرا على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها أو المناطق العسكرية أو الحدودية...». والقول باعتبار المنشآت العامة التى تحميها القوات المسلحة «فى حكم المنشآت العسكرية» فهو تفسير يتجاوز المقصود من النص ويخالفه.
• عدم الإعلان بشكل واضح وملزم عن موعد إجراء الانتخابات البرلمانية برغم أن الدستور ينص فى المادة (٢٣٠) منه على أن «تبدأ الانتخابات التالية (أى البرلمانية) خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور». وبما أن العمل بالدستور كان يوم ١٥ يناير ٢٠١٤ فإن الانتخابات البرلمانية كان ينبغى أن تبدأ قبل يوم ١٥ يوليو ٢٠١٤، وأن تكون بداية حقيقية وليس مجرد تشكيل لجنة للإشراف على الانتخابات ثم يتوقف الأمر عند هذا الحد. وها هى الشهور تمر وحالة الغموض مستمرة وموعد الانتخابات معلق على عملية ترسيم حدود المحافظات التى لا يعلم أحد ما طبيعتها وما أهميتها ومتى تنتهى. فى كل الأحوال فقد جرى تجاهل الدستور ومخالفة أحكامه لأن الواضح أن الانتخابات البرلمانية لن تكون قبل مارس أو أبريل من العام القادم، أى بعد ما يقرب من ١٤ أو ١٥ شهرا من العمل بالدستور.
• التمسك بعدم تعديل أو إلغاء قانون التظاهر رقم ١٠٧ لسنة ٢٠١٣ الصادر فى شهر نوفمبر من العام الماضى برغم تعارضه مع حرية التظاهر السلمى المنصوص عليها فى المادة (٧٣) من الدستور، وبرغم أنه لم يمنع واقعيا أية تظاهرات عنيفة، بل اقتصر أثره على ملاحقة شبان وشابات كانوا فى مقدمة صفوف ثورتى يناير ويونيو ولم يتجاوز جرمهم الوقوف على الرصيف ورفع صور زملائهم وزميلاتهم المحكوم عليهم بالسجن لعدة سنوات لأنهم أيضا وقفوا فى الشارع مدافعين عن حق التظاهر السلمى، دون حمل سلاح أو إلقاء طوبة أو تعطيل المرور أو ترويع المارة. والغريب فى هذا القانون بالذات أن الحكومة قد ألمحت وصرحت عدة مرات بأنها لا تمانع من تعديله، بما يؤكد اقتناعها بأن أضراره قد فاقت مزاياه، ثم عادت لتنفى ذلك.
• صدور القانون رقم ١٢٨ لسنة ٢٠١٤ بتعديل المادة (٧٨) من قانون العقوبات (قانون «الأشياء الأخرى») منذ اسابيع قليلة، وهو التعديل الذى جعل مزاولة أى نشاط حزبى أو أهلى أو نقابى أو غير ذلك عملا محفوفا بالمخاطر ويعرض من يمارسه لسلطة تقديرية غير مسبوقة من أجهزة الدولة فى اعتبار ذلك جريمة تؤدى إلى السجن المؤبد أو الإعدام فى ظل نصوص فضفاضة وقابلة لتفسيرات واسعة، وذلك كله فى تعارض واضح مع الحريات المنصوص عليها فى المواد ٧٤، ٧٥، ٧٦ من الدستور.
هذه بعض المخالفات الصريحة للدستور الذى أقره الشعب المصرى بأغلبية غير مسبوقة ويشكل حجر الأساس فى بناء شرعية جديدة للدولة، فهل كنا بحاجة إلى دستور يحمى الحقوق والحريات لكى نتباهى به فقط فى المحافل الدولية؟ أم أن الدستور يجب أن يكون قيدا حقيقيا على السلطة الحاكمة ومرجعا لحماية حقوق وحريات المواطنين ولضمان تطبيق القانون بالعدل والتساوى حتى على أعتى المجرمين؟ الدساتير لا تشرع لأوقات الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادى فقط، بل الغرض منها هو الحفاظ على طبيعة الدولة المدنية وعلى مؤسساتها القضائية والتشريعية حتى حينما يكون البلد ــ كما هو الحال فى مصر الآن ــ فى مواجهة مع الإرهاب والفقر والمؤامرات الخارجية، لأن هذا هو ما يحفظ للمجتمع تماسكه ويحشد قواه لمواجهة هذه الأخطار الداهمة.
فى كل الأحوال لا أظن أن حقيقة أن الدستور صار معطلا تغيب عن أذهان الناس. هناك طبعا من يصرون على تبرير ما سبق بأنه لا توجد مخالفة دستورية من أى نوع: توسيع اختصاص القضاء العسكرى يتفق والنص الدستورى، وحرية التظاهر السلمى لا تزال مكفولة للجميع وإن كان بقيود بسيطة، والانتخابات البرلمانية ستجرى فى موعدها، وقانون الأشياء الأخرى لم يشرع إلا لمواجهة التهديد الأجنبى للأمن القومى. ولكن لا أحد فى الواقع يأخذ هذه التبريرات مأخذ الجد لأن هناك قبولا واسعا فى المجتمع وفى الرأى العام لضرورة تأجيل الحديث عن الدستور والقانون والحريات لحين حسم المعركة ضد الإرهاب وإعادة الأمن والاستقرار للبلد. ولكن الحقيقة أن احترام الدستور والقانون لا يضعف من قدرة الدولة على مواجهة الإرهاب والفوضى بل على العكس فإن هذا الاحترام يدعم من تماسك المجتمع ومن وحدة صفوفه ومن حشد الجماهير وراء حكومتهم لأنه يجعل كل مواطن يشعر بأن دولته حريصة على حقوقه وحريته ومواطنته الكاملة حتى فى أحلك الظروف وأصعبها، وأن بنيان الدولة لا يزال قائما وأن مؤسساتها لا تهتز تحت وطأة القنابل والمتفجرات، وفى هذا وحده انتصار على الإرهاب والفوضى وحماية لهيبة الدولة واحترامها.
الدستور الحالى، شأنه شأن كل دستور فى أى بلد آخر، ليس خاليا من العيوب وبالتأكيد ليس نصا مقدسا لا يمكن تعديله أو تغييره، ولكن طالما كان قائما فيلزم الحفاظ عليه لأن تراجع المجتمع عن احترام نصوص الدستور وعن الاعتماد على قضاء مدنى مستقل وعن تطبيق القانون بالعدل هو الهزيمة الحقيقية أمام الإرهاب وأمام من يحيكون المؤامرات ضد الوطن، فهؤلاء لا يكفيهم سقوط الشهداء والجرحى، بل يسعون وقبل كل شىء آخر إلى هدم البنيان الدستورى والقانونى للدولة، فلماذا نمنحهم هذه الفرصة بأنفسنا؟