فى الذكرى السنوية لوفاة الدكتور طه حسين، تعود إلى ذهنى بعض الذكريات العزيزة والشخصية عنه، وعلى الأخص مقابلتى الوحيدة له وجها لوجه، التى تركت أثرا قويا فى نفسى عن هذه الشخصية القوية المبهرة، وزادت من فهمى لسر ما تركه من أثر عميق فى الحياة الثقافية والاجتماعية فى مصر.
كان اسم طه حسين طوال سنوات صباى وشبابى، يتردد باستمرار فى الصحف والمجلات مقترنا دائما بالاحترام وباعثا على الرهبة، كما كان اسمه يتردد كثيرا أيضا فى بيتنا، لكثرة ما كان يرويه أبى عنه من أخبار ونوادر.
كان بلاشك أكبر أديب عربى حتى توفى فى سنة 1973، وهو فى الرابعة والثمانين، وبعد أيام قليلة من حرب أكتوبر، فنعاه توفيق الحكيم بقوله إنه لم يمت إلا بعد أن اطمأنت نفسه بعبور المصريين قناة السويس، لاسترداد سيناء المحتلة.
لم يشغل طه حسين منصبا سياسيا إلا لأقل من سنتين عندما اختاره مصطفى النحاس وزيرا للمعارف فى 1950، ولكنه أصبح بسرعة أشهر وزير، بتوسيعه نطاق مجانية التعليم حتى نهاية الدراسة الثانوية، بجملته البليغة فى تبرير ذلك «العلم كالماء والهواء» التى استخدمها بعده كل مدافع عن مجانية التعليم.
كان بلاشك يتمتع بقدر من الفصاحة فى الكتابة والحديث بالعربية الفصحى، يفوق ما كان لأى كاتب آخر من جيله، كما كان أكثرهم جرأة فى تحرى الآراء المألوفة فى الأدب، بل وبعض الآراء الدينية السائدة. ضمن له ذلك الشهرة ولكتبه الذيوع والانتشار، فتردد وصفه بأنه «عميد الأدب العربى»، مثلما شاع وصف أم كلثوم «بكوكب الشرق». كان أيضا أقرب إلى نبض الجماهير من غيره من كتاب جيله، مما قربه بشدة من حزب الوفد، أكثر الأحزاب المصرية شعبية، وأثار نفور القصر الملكى منه، خاصة بعد أن نشر كتاب «المعذبون فى الأرض»، فى منتصف الأربعينيات، عندما اشتد ساعد الاتجاهات اليسارية والاشتراكية فى مصر، فاعتبره القصر من مؤيدى «الأفكار الهدامة»، وحرم من تولى الوظائف العامة مدة طويلة حتى اضطر الملك إلى تكليف الوفد بتشكيل الحكومة فى 1950. كان فضلا عن ذلك، وبلاشك شخصية قوية للغاية، حاسما فى التعبير عن آرائه وفى اتخاذ القرارات، وذا صوت عميق مؤثر فى النفس، ولا يمكن أن تخطئه الأذن، إذا سمع فى أحاديثه فى الإذاعة، ويجبر المستمع على الإنصات إليه. كان قادرا بسبب كل هذه الصفات، حتى وهو بعيد عن المناصب الكبيرة، على التأثير فى أصحاب السلطة، فيحصل منهم على القرارات التى يرغب فيها، والتى كان كثيرا ما يطلبها لمساعدة مثقف تعرض للظلم من الحكومة بسبب آرائه السياسية أو مواقفه المعارضة للسلطة. سمعت أمثلة كثيرة لهذا من مثقفين معروفين (كعبد العظيم أنيس، ومحمود العالم ومحمد عودة)، لم يكونوا يتفقون فى الرأى مع طه حسين فى أمور مهمة، بل وكتب بعضهم كتبا أو مقالات فى نقد أفكاره، ولكنه تدخل لدى الحكومة لرفع الظلم عنهم، عندما اقتنع بعدالة مطالبهم، وظفر بما أراد بسبب ما يتمتع به اسمه من رهبة لدى الجميع.
•••
كانت علاقة أبى (أحمد أمين) بطه حسين ذات أهمية كبيرة فى حياة أبى، وظلت كذلك حتى بعد أن وقع بينهما الخصام، وأصاب علاقتهما البرود، الذى استمر حتى وفاة أبى فى 1954. كانا شخصيتين مختلفتين جدا جدا فى المزاج، كما كانا فى أسلوب الكتابة. كان طه حسين يهتم، كما هو معروف، بجمال الأسلوب أكثر مما يهتم بغزارة المعنى، وكانت طريقة أبى فى الكتابة عكس ذلك بالضبط. أذكر أن أبى ذكر لنا مرة، دون أن يخفى سروره، أن بعض تلاميذه قالوا له انهم عندما يريدون تلخيص محاضرات أو كتابات طه حسين، يجدون أن الصفحة الكاملة يمكن تلخيصها فى جملة أو جملتين، بينما يجدون استحالة ذلك مع كتاباته هو، وذكروا تشبيها لما يكتبه طه حسين «بغزل البنات»، من حيث سهولة ضغطه واختصاره. ومع ذلك فقد ظل الرجلان، أبى وطه حسين، يعرف كل منهما للآخر فضله على الأدب والتعليم والحياة الاجتماعية فى مصر بوجه عام. كتب أبى فصلا مؤثرا عن طه حسين فى كتاب سيرته الذاتية (حياتى)، كما كتب طه حسين عن أبى مقالا مؤثرا فى رثائه.
عندما دخل أبى المستشفى لإجراء عملية خطيرة فى عينيه، استلزمت رقاده شهرا دون حراك، وهو مغمض العينين، زاره طه حسين، رغم ان علاقتهما كانت قد فقدت كثيرا من قوتها السابقة. وقد وصف أخى حسين فى فصل له عن طه حسين (فى كتابه: شخصيات عرفتها، دار العين للنشر، 2007)، المنظر الذى جمع الرجلين فى حجرة أبى بالمستشفى، رجل مغمض العينين والآخر ضرير، وصفا مؤثرا فكتب:
«يدخل (طه حسين) حجرة المستشفى يقوده سكرتيره فريد شحاتة من ذراعه. وإذ يسمع أبى، وهو معصوب العينين، صوته، يمد يده فى لهفة فى اتجاه الصوت. فأمسك أنا بيد والدى، ويمسك فريد شحاتة بيد طه حسين، حتى تلتقى اليدان ويتصافحان».
•••
رغم طول هذه العلاقة بين أبى وطه حسين، فإننى لم أقابل طه حسين وجها لوجه، فى حياتى إلا مرة واحدة. وقد حدث فيها ما يستحق أن يروى. كان هذا اللقاء قبل وفاة طه حسين بشهور قليلة، فى مجمع اللغة العربية، الذى كان يترأسه طه حسين، ولم أدخله إلا بالمصادفة. كان أحد أساتذتى فى كلية الحقوق (الدكتور عبدالحكيم الرفاعى) عضوا بالمجمع، وكان المجمع يعمل على إقرار مصطلحات عربية صحيحة فى علم الاقتصاد، ويلجأ فى ذلك إلى معونة الدكتور الرفاعى بوصفه اقتصاديا وعضوا بالمجمع. استعان الدكتور الرفاعى بى، إذ طلب منى أن اختار مجموعة من المصطلحات الإنجليزية، فى موضوعات اقتصادية حديثة نسبيا، وأن أقوم باختيار مقابل عربى ملائم لها ثم أقوم بتعريفها وان أعرض ذلك فى جلسة من جلسات المجمع، على أن تقتصر فترة وجودى فى المجمع على فترة عرض المصطلحات الاقتصادية ومناقشتها وإقرارها، ثم انصرف بعد ذلك مباشرة ليبقى فى الجلسة أعضاء المجمع دون إزعاج ممن يسمون مجرد «خبراء» مثلى. شاهدت طه حسين وهو يدخل القاعة بصحبة سكرتيره، فإذا بالقاعة التى كان يسودها الضجيج والأحاديث الجانبية بين الأعضاء، الواقف منهم والجالس، يحل بها صمت كامل بدخول هذا الرجل الضرير، ولكن يشع منه بريق نفسى يخطف الأبصار. أخذنى أحد الحاضرين من يدى لقدمنى إلى طه حسين لمصافحته، وذكر له بالطبع أننى ابن الأستاذ أحمد أمين، فرحب بى بلطف. كان فى الحجرة نحو عشرين شخصا، تسلموا كلهم فى يوم سابق على الجلسة نسخة مما أعددته من مصطلحات وتعريفات، وبدأت أتلو عليهم مصطلحا بعد آخر حتى وصلت إلى مصطلح «الانكماش»، كمقابل للمصطلح الإنجليزى (Deflation) وقرأت تعريفى له بأنه انخفاض مستوى الانفاق والدخل والأسعار... إلخ، فإذا بأحد الأعضاء يهب واقفا معترضا بشدة على استخدام هذه الكلمة (الانكماش) لوصف حالة كهذه، وقال ان القواميس تقول «كمشى الحصان أى أسرع فى سيره»، وهو عكس المعنى الذى أقوله، والذى يتضمن ركودا وتباطؤا فى الحركة. عرفت فيما بعد أن هذا المعترض رجل مهم هو الأستاذ عباس حسن صاحب الكتاب الشهير فى النحو (النحو الوافى)، وكان يعتبر من أقدر اللغويين العرب الأحياء، ان لم يكن أقدرهم على الإطلاق. نظر طه حسين فى اتجاه الرجل وقال بصوته الفخم «جبتها منين دى يا عباس؟». فإذا بعباس حسن، وكان لايزال واقفا، يجيب بحماس، وقد رفع بيده كتابا ضخما، بأن هذا هو ما يقوله «لسان العرب»، أو «مختار الصحاح» (لا أذكر أيهما بالضبط). توجه طه حسين بوجهه فى ناحيتى وسألنى: «هل درجتم، انتم معشر الاقتصاديين، على استخدام هذا المصطلح، أى الانكماش، بهذا المعنى؟». أجبته بالايجاب، فإذا بطه حسين يفاجئ الجميع بقوله لعباس حسن «طظ يا عباس!». ثم قال ما معناه انه إذا كان العمل قد سار على ذلك، واستقر استخدام الاقتصاديين للفظ بهذا المعنى فلا ضرر من ذلك، ويجب على المجمع أن يقره. كان هذا كافيا لأن يلتزم عباس حسن الصمت، وأن استمر أنا فى قراءة بقية المصطلحات ولم يزعجنى بعد ذلك شخص آخر.
•••
عندما غادرت الجلسة لم أكن واثقا تماما مَنْ مِن الرجلين كان على صواب. ولكن خطر لى أن خلافا كهذا لابد أنه يتكرر كثيرا فى جلسات المجمع: المتمسكون بما تقوله القواميس القديمة ويرفضون مخالفتها، يختلفون مع الذين يفضلون مسايرة العصر، والاعتراف بأن اللغة كائن حى لابد أن يسمح له بالتغير مع تغير الأحوال، وان السماح باستعمال اللفظ الجديد السائد قد يكون أكثر نفعا من الإصرار على التمسك باللفظ القديم المهجور. كان رأى طه حسين فى اللغة، مثل آرائه الأخرى، يعارض الجمود وينتصر للجديد. خطر لى أيضا أن انتصار «طه حسين» على «عباس حسن» فى هذه الواقعة، لابد أن يكون مجرد مثال صغير لما يحدث باستمرار فى جلسات المجمع، وان سبب انتصاره المؤكد يرجع أساسا إلى قوة شخصيته وشهرته، بينما كان رجل مثل عباس حسن، مهما كانت غزارة علمه وتبحره فى اللغة، ربما بأكثر من تبحر طه حسين وعلمه باللغة، ضعف شخصيته ولا يكاد يعرفه إلا اللغويون. قلت لنفسى أيضا وان الحل الصحيح هو بالطبع محاولة التوفيق بين ما يقول به القديم وبين حاجات العصر الجديد، وأن مسايرة العصر ليست بالضرورة هى الحل الأمثل فى جميع الحالات. ولكن الانتصار فى هذا الأمر أيضا، مثله فى غيره من الأمور، ليس من نصيب الرأى الأصوب بل الشخص الأقوى.