بحسب المعجم الوسيط يُقال إن "فلان يتلاعن علينا" إذا كان يتماجن ولا يرتدع عن سوء. وفي الحديث: "اتّقوا اللاَّعِنَيْن" في النهي عن التّخلي في طريق الناس أو ظلّهم، واللعنة هي العذاب، فيقال: أصابته لعنة من السماء. ومن الاقتصاد ما هو لعنة غير أنها لا تأتي من السماء. "لعنة التمويل"، مفهوم يعني أنه بمجرد أن ينمو القطاع المالي متجاوزاً حجماً محدداً مناسباً، ومتعدياً أدواره المفيدة في خدمة الاقتصاد، فإنه يبدأ في إيذاء البلد.
لقد شغلت مسألة إضفاء الطابع التمويلي على الاقتصاد العالمى بعد الأزمة المالية- الاقتصادية في 2008، ودشنت نقاشاً يخص مسؤولية هذه الظاهرة عما حدث، ودعوات لإعادة تنظيم القطاع، إلى آخره. وبرغم أن هذه الدعوات الإصلاحية تفادت الأسباب الأعمق للأزمة في حركية الاقتصاد الرأسمالي العالمي وميل معدلات الربح والتراكم للتناقص، إلا أنها لم تلق أذنا صاغية، واستمر القطاع في النمو واكتساب المزيد من النفوذ.
يشابه الصحفي والناشط بشبكة العدالة الضريبي والخبير الدولي في المراكز المالية والملاذات الضريبية نيكولاس شاكسون بين مصطلح "لعنة التمويل لما يسمى بـ "لعنة الموارد الطبيعية"، ليشرح بشكل تفصيلي في كتابه الجديد الصادر في أكتوبر الماضي، كيف تعمل هذه اللعنة على الاقتصاد وتنزل أذاها بحياتنا جميعاً. المصطلح كان شاكسون قد صكه لأول مرة في كتابه الأشهر عام 2011 عن الملاذات الضريبية والمترجم للعربية.
يتحرك شاكسون في كتابه الجديد من أنجولا إلى بريطانيا مراراً متنقلاً بين لعنتي التمويل والموارد والشبه بينهما. في أنجولا، حيث كان شاكسون يعمل في التسعينيات كصحفي، كان السؤال الذي يتلقاه: كيف يعاني سكان بلد غني إلى هذا الحد من الفقر والبؤس؟ يقول الكتاب إن الإجابة كانت دائماً الفساد. لكن شيئاً أكبر كان يحدث. ففي بلدان غنية بالمعادن كأنجولا أحياناً ما تؤدي الوفرة إلى "نمو اقتصادي أبطأ، المزيد من الفساد والصراعات والسياسات السلطوية وفقر أكبر حتى من بلدان أقل غنى بالموارد. صحيح أن السياسيين والأغنياء يحولون المال الذي يقنصونه للخارج إلى حيث يصعب تعقبه لكن الفكرة هي أن توفر المزيد من المال قد يجعل بلداً وسكانها أفقر.
في أنجولا والبلاد التي تشابهها يزيد نفوذ قطاع واحد من الاقتصاد على غيره كما كان حال قطاع البترول، وبدلاً من أن يوفر التمويل لدفع باقي القطاعات فإن هذا القطاع تلقى كل الاهتمام ليسحب الحياة من الزراعة والصناعة. ولأنه هو القطاع الصاعد الغني فقد سحب كل العقول المتعلمة لتعمل به. كما أدت التدفقات المالية التي دخلت البلد وولدها البترول إلى رفع الأسعار "من السكن لقص الشعر" خالقة موجة أخرى من تدمير الصناعة والزراعة. كما أدت تذبذبات أسواق البترول إلى دورات مدمرة من الركود والكساد بسبب تقلبات الأسعار. لكن ما وجه الشبه الممكن بين وضع كهذا في أنجولا وبين بريطانيا؟
***
يشير كتاب شاكسون إلى مراسلات بينه وبين جون كريستنسن من شبكة العدالة الضريبية، وقت أن كان الأول مازال صحفياً في أنجولا، نبهته إلى أن بريطانيا ابتليت بلعنة أخرى ذات ملامح شبيهة. فقد تضخم فيها القطاع المالي والمصرفي لحد أن أصول القطاع البنكي تضخمت من نصف الناتج المحلي في السبعينيات إلى خمسة أضعافه في 2006 قبيل الأزمة العالمية وهو ضعف المتوسط الأوروبي. ولو توسع تعريف القطاع المالي لأصول شركات التأمين وغيرها من المؤسسات المالية فإن الرقم يصل لعشرة أضعاف. في بريطانيا أيضاً جذب القطاع علماء الصواريخ بعيدا عن الأقمار الصناعية. ويضيف شاكسون ساخراً: "لا عجب من فقر نوعية رؤساء وزراء بريطانيا مؤخراً". كما أدت تدفقات ما يسمى بمدينة لندن، أو مركز المال الشهير إلى قفزة سعرية في قطاعات كالعقارات وتعرض الاقتصاد لتذبذبات أسواق المال بطرق مدمرة، ليست أزمة 2007-2008 شاهدها الوحيد.
غيرت لعنة التمويل الكثير. يقول خبير الضرائب البريطاني إن الاقتصاد هنا كنهر تسير فيه مراكب محملة بثروات النفط أو المال وعلى مدى الطريق يُحصِّل حراس البوابات رسوما من المراكب العابرة إلى أن تنهي عليها حينما تصل المراكب لآخر النهر حيث يعيش معظم الناس. ورغم أن بريطانيا اقتصاد أكثر تنوعا بكثير من أنجولا إلا أن هذه اللعنة جعلت القطاع المالي في صراع مع باقي قطاعات الاقتصاد و"دائما ما ينتصر"، وهو ما يشهد عليه أفول الصناعة البريطانية. هذا القطاع صار مصمماً بطريقة تحول الثروة لأعلى على حساب الأغلبية. يشير شاكسون إلى أن الفارق بين المنافع التي قدمها المال للاقتصاد الأمريكي وبين أضراره كان هائلاً لصالح الأخير. تفادي أضرار القطاع المالي كان ليمثل دخلاً إضافياً بين 105 آلاف و184 ألف دولار لكل عائلة أمريكية، أو لكانت كل عائلة تمكنت من مضاعفة ثروة معاشها. وتشير دراسة أخرى من جامعة شيفيلد، تستخدم في عنوانها مصطلح لعنة التمويل، إنه بين 1995 و2015 تسبب القطاع المالي في بريطانيا في خسارة كل عائلة ما يصل ل 170 ألف جنيه إسترليني.
يجول شاكسون في كتابه تفصيلياً بين معجزة أيرلندا المتداعية، لشركات الاستثمار المباشر، لشركات المحاسبة العالمية الكبرى، مركزاً على تداعيات لعنة المال أكثر منه على أسبابها. "في عصر إضفاء الطابع المالي تحول رؤساء الشركات ومستشاروهم من خلق الثروة للاقتصاد إلى استخلاص الثروة من الاقتصاد باستخدام التقنيات المالية"، بحسب الكتاب. بل إن هؤلاء بفعل هذا النفوذ في الاقتصاد، الذي فاقم الثروة في القمة وترك الاقتصاد الذي يتعيش منه الأغلبية في ركود ودخولهم ونصيبهم من الثروة في تراجع مستمر، صار لهم الكلمة العليا في السياسة. فحينما يكون مصدر الثروة نفطاً أو غازاً أو ريعاً للمال، تتراجع فرص المساءلة والمحاسبة وتزيد فرص من يقنصون مراكب الثروة.
***
والحقيقة أن نفوذ القطاع المالي ليس قاصراً على مدينة لندن ولا نيويورك ولا الاقتصادات المتقدمة فقط. فيمكننا أن نلاحظ مع تزايد أهمية الديون وأنشطة الخصخصة والتوريق وغيرها، تصاعد نفوذ وأهمية القطاع المالي في بلد كمصر. يقول البنك الدولي إن الريع وأرباح الشركات الكبرى صار غالبا على الاقتصاد في مصر مزيجاً الأجور والإنتاج. كما تشير الحسابات القومية لعام 2012/2013، وهي آخر أرقام متاحة إلى استحواذ الفوائد على 17 في المائة من الدخل القومي بينما وصلت عوائد الملكية العقارية وغيرها لأربعين في المائة. في وقت تنخفض فيه الضرائب كثيراً على هذه الأنشطة. وغني عن البيان ما للقطاع المالي من نفوذ حالياً في مصر يحميه من أي إجراء حكومي يستهدف فرض ضرائب أو ترشيد هذا النوع من الأنشطة بينما تتوجه إدارة أصول الدولة لفتح باب أوسع لنشاطه من خلال الخصخصة وطروحات البورصة. وتشير الدراسات إلى تدفقات مالية كبرى تفقدها الموازنة سنوياً بفعل خروج الأموال من مصر إلى الملاذات الضريبية.
يحذر شاكسون من عملية تمويه كبرى تحاول اقناع الناس بأن هذا هو الوضع الطبيعي والأمثل (عندنا للحاق بركب التقدم)، داعياً إلى عملية تنظيف كبرى وإجراءات عميقة، لن تكون سهلة، ويسأل الكل: في أي جانب تقف؟
في قائمته لأهم الكتب في النصف الثاني من 2018، يقول مارتن وولف، محرر الاقتصاد في جريدة الفاينانشيال تايمز عن كتاب شاكسون إنه يمثل سجالاً رائعا مع التمويل المعاصر ومدينة لندن خصوصاً. "يدفع شاكسون أن التمويل المعاصر لا يشجع فقط التجنب والتهرب الضريبيين وإنما يمكن أيضاً ممارسات عصابات وفساداً اقتصادياً على نطاق واسع، وأخشى أنه على حق".
نيكولاس شاكسون، لعنة التمويل، كيف يتسبب التمويل العالمي في إفقارنا جميعاً، لندن، الناشر بودلي هيد، أكتوبر 2018، 368 صفحة.
Nicholas Shaxson, The Finance Curse: How global finance is making us all poorer,
London, Bodley Head, October 2018, 368 pages
كاتب مصري وباحث في الشؤون الاقتصادية