حرب غزة تربك الداخل الإسرائيلي - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:39 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرب غزة تربك الداخل الإسرائيلي

نشر فى : الإثنين 4 ديسمبر 2023 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 4 ديسمبر 2023 - 7:10 م

علاوة على تداعياته الاقتصادية المروعة، تمخض العدوان الإسرائيلى الخامس على قطاع غزة، عن تحولات استراتيجية عميقة الأثر، أربكت مختلف جوانب الحياة داخل دولة الاحتلال.
فى تحدٍ منها لذوى الأسرى الإسرائيليين، شرعت حكومة، نتنياهو، فى التخلى عن التزام الدولة العبرية الراسخ، لجهة تأمين واستعادة أى أسير إسرائيلى، سواء كان حيا أو ميتا، مهما طال به الزمن، أو تفرقت به السبل. فبدم بارد، نزعت الحكومة اليمينية المتطرفة، إلى تطبيق «برتوكول هانيبال»، الذى يخولها التضحية بالأسرى الإسرائيليين، تجنبا للى ذراع دولة الاحتلال، عبر إجبارها على الانخراط فى مفاوضات أو مساومات، تضطرها لتقديم تنازلات مقابل استردادهم. خصوصا بعدما أخفقت التحركات الاستخباراتية والعسكرية العدوانية المتواصلة فى استعادتهم عنوة، ودونما قيد أو شرط. فخلال العدوان الحالى على غزة، لم يتورع مسئولون إسرائيليون متطرفون عن المطالبة بتوجيه ضربة نووية ضد القطاع، حتى لو أدت إلى قتل الأسرى الإسرائيليين والرهائن الأجانب أجمعين، إلى جانب الفلسطينيين. ورفضا لهكذا توجه، وفى رد منهم على مساعى نتنياهو، إعاقة صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية، احتشد مائة ألف من أقارب الأسرى ومؤازريهم، فى ميدان بتل أبيب، أطلقوا عليه «ميدان المختطفين». وطالبوا باستكمال صفقة التبادل، وقف العدوان، واستقالة نتنياهو، الذى وصموه بالفشل والفساد. ليصبحوا بذلك قوة ضغط، لا يستهان بها، على الحكومة.
على وقع عملية «طوفان الأقصى» المدوية، اضطرت سلطات الاحتلال إلى إجلاء 250 ألفا من قاطنى خمسين مستوطنة بغلاف قطاع غزة، والمدن القريبة من خط الحدود مع لبنان؛ ونقلهم إلى تل أبيب وإيلات، علاوة على المستعمرات الزراعية، فيما يعرف بـ«الكيبوتسيم». ولم تفلح الامتيازات، الحوافز المالية والإعفاءات الضريبية، التى تلوح بها الحكومة، فى تشجيعهم على العودة بعدما تضع الحرب الخامسة على غزة، أوزارها. فلقد تملكهم الهلع المرضى من الضربات الموجعة والمباغتة للمقاومة الفلسطينية. وعلاوة على كونها، خط الدفاع الأول لإسرائيل بمواجهة تلك المقاومة الباسلة، فإن مستوطنات غلاف غزة تعد ركنا ركينا للأمن الغذائى الإسرائيلى. حيث تنتج 75% من الخضراوات، التى تحتاجها دولة الاحتلال، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب. كما تضم مزارع ضخمة للدواجن، الماشية والأسماك.
حذر تقرير أعده أمنيون سابقون وباحثون بمعهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى، من أن يفضى تعثر تسوية قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، إلى تآكل مناعة المجتمع الإسرائيلى، وتراجع التأييد الشعبى لاستمرار العدوان. وأن تؤدى إطالة أمد الحرب، إلى رفض السكان، الذين تم إجلاؤهم من غلاف غزة والجليل، العودة لمناطقهم، التى يتهمون الحكومة بالتقصير فى توفير الأمن اللازم لها. وبحسب التقرير، فإن نشوب مواجهات ممتدة وشرسة على جبهة جنوب لبنان، بموازاة الحرب المستعرة فى قطاع غزة، سيفرض تحديات هائلة على الداخل الإسرائيلى. من قبيل، تقويض التأييد الجماهيرى للمجهود الحربى، تفجير تساؤلات حول جدوى استمرار الحرب، وتحرى السبل الكفيلة بالخروج الآمن من هاتين الجبهتين.
منذ السابع من أكتوبر الماضى، الذى بات يسمى إسرائيليا «السبت الأسود»، ساد دولة الاحتلال شعار «معا ننتصر»، بعدما روجت له الدعاية الصهيونية النشطة. لكن استمرار القتال وسقوط قتلى بين صفوف قوات الاحتلال يوميا فى غزة، تزامنا مع ارتقاء 16 ألف شهيد فلسطينى مدنى، من دون تحقيق أهداف العدوان، المتمثلة فى الإجهاز على المقاومة واستعادة الأسرى؛ غدا هذا الشعار بلا مضمون، كما بدأ يخبو ويتوارى. بل إن تقرير معهد أبحاث الأمن القومى وصفه بأنه أصبح «شعارا أجوف» أمام الاستقطاب السياسى، الذى يعمق الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلى. ولفت التقرير إلى أن استمرار الهلع، الحرج، انعدام اليقين، المصاعب اليومية والإحباط، جراء عدم تحقيق إنجازات استراتيجية حقيقية سريعة من وراء الحرب الضارية، سيعمق الصدع فى بنيان الجبهة الداخلية، بما يقوض التضامن الوطنى الملح أثناء العدوان.
بينما يمضى العامل الزمنى فى غير مصلحة إسرائيل، تتعاظم الضغوط الدولية على حكومة نتنياهو لحملها على القبول بوقف دائم لإطلاق النار. فى الأثناء، يحذر معدو التقرير من أن تراجع الدعم الدولى، بخاصة الأمريكى، للسياسات والمواقف الإسرائيلية، من شأنه أن ينعكس سلبا على تماسك الجبهة الداخلية، كما سيغذى شكوك وتحفظات الإسرائيليين لجهة إمكانية وجدوى استمرار العدوان الراهن على القطاع. وليس بخاف أن استمرار ذلك العدوان، وتوسعه أفقيا ليشمل جبهات أخرى، سيكون كفيلا بتهديد مناعة المجتمع الإسرائيلى، إلى مستوى يخلق ساعة رملية داخلية، يمكن أن تؤدى إلى تقويض الدعم الأمريكى والدولى لنتنياهو.
أدى تراكم الأزمات الداخلية فى دولة الاحتلال، إلى مفاقمة معدلات الهجرة العكسية، وانكماش مؤشرات قدوم اليهود، إثر اهتزاز ثقة المواطنين فى التزام الدولة بالقاعدة التى ترسخت على مدار العقود الماضية، للدولة الحامية، القادرة، الجاذبة. فخلال الشهر الأول من حرب غزة، سجلت إسرائيل رقما قياسيا فى عدد المسافرين الذين غادروا الموانئ الجوية والمعابر البرية. وهو أمر أثار قلق وزارة الهجرة والاستيعاب، بعد أن أعلن غالبيتهم أنهم لا يفكرون بالعودة، فيما يترقب البعض انتهاء الحرب وتحييد ضربات المقاومة الفلسطينية، حتى يقرر البقاء أو الهجرة. حيث يعتقد إسرائيليون كثر أن بلادهم لم تعد آمنة. وحتى بعد انتهاء الحرب، فإن استعادة الأمن المفقود بجميع المناطق، يتطلب وقتا طويلا وتدابير سيكون من الصعب على الكثيرين تحملها. الأدهى من ذلك، أن جماعات ومؤسسات إسرائيلية شتى، هرعت إلى استغلال هذا الوضع القلق بغية التربح. إذ عمدت إلى تشجيع الإسرائيليين على السفر، عبر نشر قوائم لدول يمكنها قبول هجرة الإسرائيليين إليها، وتسهيل منحهم إقامات وجنسيات.
يتبارى كثير إسرائيليين فى اتخاذ خطوات غير مسبوقة نحو الهجرة، كنقل الأموال وشراء العقارات فى الخارج. ويبدو أن مخاوفهم الأمنية قد تجاوزت الحرص على تجنب «وصمة العار» الوطنية، التى تلاحق كل مَن يفكر بالهجرة العكسية. وفى هذا السياق، أطلق رجل الأعمال الإسرائيلى «يوسى تاجورى» مبادرته المسماة «سفينة نوح 2». وهى التى تدعو إلى إنشاء مجتمعات تنشد الاحتفاظ بالثقافة الإسرائيلية خارج دولة الاحتلال، توطئة للعودة إليها، بعد أن تتغير أوضاعها السياسية والأمنية نحو الأفضل. وخلال الآونة الأخيرة، كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بيانات، حول عدد الطلبات المقدمة من لدن الإسرائيليين، للحصول على جنسيات أجنبية، وحيازة جواز سفر ثانٍ، والدول التى تعد وجهات مُفضلة لديهم. ووفقا لهذه البيانات، بدأت جموع إسرائيلية غقيرة تتهافت على الدول، التى تقدم تسهيلات تتصل بمنح الجنسية والإقامة للإسرائيليين، مثل: إسبانيا، البرتغال، الولايات المتحدة، ألمانيا، بريطانيا، بلغاريا، تايلاند، قبرص واليونان. وتؤكد شركة «أوشن للانتقالات»، المتخصصة فى مجال مساعدة الناس على الهجرة، عبر نقل الأصول المالية إلى الخارج، إنشاء حسابات مصرفية فى أوروبا والولايات المتحدة، وشراء العقارات خارج دولة الاحتلال، أنها لم تشهد تدافعا على تقديم طلبات السفر، على مدار سنوات عملها الثمانين داخل دولة الاحتلال، مثلما شهدته خلال الشهرين المنقضيين.
رغم شراسته وأضراره اللا محدودة، تمخض العدوان الحالى على قطاع غزة والضفة، عن بروز أصوات إسرائيلية مناهضة له. ففى تل أبيب، سيرت منظمة «نقف معا» اليسارية، تظاهرات احتجاجية، تنشد الضغط على حكومة، نتنياهو، من أجل وقف شامل وممتد لإطلاق النار؛ رافعة شعارات على شاكلة: «لا يوجد رابح من الحرب»، «أوقفوا إطلاق النار الآن». بالتزامن، أيقظت التداعيات المروعة لذلك العدوان، «معسكر السلام» الإسرائيلى، من سباته العميق، ليستفيق على حقيقة مفادها، أن أمن إسرائيل، لن يتأتى بغير سلام يضمن إقامة دولة فلسطينية.

التعليقات