ونحن نستقبل عاما جديدا نأمل أن يكون أخف وطأة على العالم من العام المنصرم من الجيد أن نخطط جيدا لما سيأتى. أهم سلاح استراتيجى للدول فى عصرنا هو التكنولوجيا. التكنولوجيا تنبع من شيئين: البحث العلمى وريادة الأعمال لتحويل البحث لمنتج أو خدمة. لن نتكلم عن ريادة الأعمال الآن لكن سنركز فى مقالنا اليوم على البحث العلمى. مقال هذا الأسبوع يثير أسئلة موجعة أكثر مما يعطى إجابات مريحة، لكن الأسئلة هى دائما أول خطوة نحو إجابات مفيدة.
منذ عدة سنوات كتبت مقالا عن تحديات البحث العلمى فى الدول النامية، لكن هذا الموضوع يطل برأسه كل حين خاصة والتقدم التكنولوجى يسير بخطى كبيرة فى الدول المتقدمة مما يؤدى إلى اتساع الفجوة بينها وبين الدول النامية التى تعيش فقط على استهلاك ما تعطيها لها الدول المتقدمة وهو حتما ليس الأكثر تقدما. لذلك يجب إعادة زيارة هذا الموضوع الهام. سنتحدث عن المشاكل التى يواجها البحث العلمى فى الدول النامية فى القرن الواحد والعشرين.
...
أولى هذه الصعاب هو عنصر الوقت. فى ظل غلاء المعيشة يجب أن يبحث كل فرد عن طرق لزيادة دخله عن طريق عمل إضافى أو ما شابه. الباحث سواء فى الجامعة أو مراكز الأبحاث مثله مثل أى شخص يريد زيادة دخله حتى يتمكن من العيش الكريم. هذا يجعله يعمل مثلا كاستشارى لبعض الشركات أو يعمل عملا إضافيا آخر. هذا كله يأخذ من وقته وجهده وفى الأغلب لا يجد وقتا ولا جهدا لعمل بحث علمى معتبر، وينتهى به الأمر إلى عمل بعض الأبحاث الضعيفة فى مؤتمرات أو مجلات محلية ضعيفة فقط من أجل الترقية، أو قد يتوقف تماما عن البحث العلمى.
الوقت أيضا يتآكل نتيجة المسئوليات الإدارية التى يتحملها كجزء من أعباء الوظيفة.
الوقت مهم للبحث العلمى مثله مثل التمويل والإمكانات المعملية.
...
ثانيًا نوع البحث العلمى مهم بالنسبة للدول، ليست كل الدول سواسية فى نوع البحث العلمى الذى تحتاجه. هناك أربعة أنواع من الأبحاث العلمية:
• أبحاث نظرية (أى لا تحل مشكلة ملحة على الأرض) ذات نتائج على المدى المتوسط (أى حوالى خمس سنوات) أو الطويل، من أمثلة تلك الأبحاث المتعلقة بالأبحاث الأساسية مثل اكتشاف مواد أولية جديدة أو باكتشاف نظرية موحدة فى الفيزياء تعمل على الأجسام الكبيرة وتلك التى داخل الذرة.
• أبحاث نظرية ذات نتائج منتظرة على المدى القصير، من أمثلة تلك الأبحاث المتعلقة باكتشاف طرق رياضية (من الرياضيات وليست الرياضة البدنية) فى نظرية الأرقام.
• أبحاث تطبيقية (أى تحل مشكلة على الأرض) ذات نتائج على المدى المتوسط أو الطويل، من أمثلة تلك الأبحاث استكشاف الكواكب الأخرى أو اكتشاف أدوية أكثر فاعلية للأمراض المتوطنة.
• أبحاث تطبيقية ذات نتائج على المدى القصير، ومن أمثلة تلك الأبحاث استكشاف طرق أرخص لتحلية مياه البحار أو لزيادة فاعلية الخلايا الشمسية أو لتخزين وتوزيع الطاقة.
طبعا فى الدول النامية النوع الرابع يجب أن يأخذ الأولوية يليه النوع الثالث، فمثلا عندنا فى مصر الأبحاث المتعلقة بالطاقة الشمسية وتخزين ونقل تلك الطاقة وتحلية مياه البحر وزيادة إنتاجية الفدان الزراعى تعتبر من أهم الأبحاث التى نحتاج فيها إلى نتائج سريعة.
...
النقطة الثالثة قد تبدو غريبة وخارج السياق لكنها لا تقل أهمية عن بقية النقاط وهى متعلقة بالقوة الناعمة. ترتيب الجامعات فى التصنيفات الدولية يعتبر وسيلة من وسائل القوة الناعمة. هناك عدة جامعات عندنا ذات تصنيف جيد فى بعض التصنيفات الدولية، هذا جيد بالطبع لكنه ليس الهدف النهائى. نحن نتعامل مع التصنيف كأنه هو الهدف الذى لا يوجد بعده شىء. امتلاك أسلحة القوة الناعمة شىء واستثمار تلك القوة الناعمة شىء آخر. هل فكرنا مثلا فى استخدام هذا التصنيف لاستقطاب عقول متميزة من الخارج؟ حاليا أغلب الطلاب الأجانب عندنا هم من دول تواجه صعوبات ونحاول مساعدة مواطنيهم، لكن هل يساعد هؤلاء الطلاب فى البحث العلمى لجامعتنا؟ إذا استثمرنا القوة الناعمة لجذب المواهب من الدول الأخرى التى لا ترغب أو لا تستطيع الذهاب للغرب فسنجنى ثمار ذلك فى غضون عدد قليل من السنين.
...
فى مصر يجب أن نهتم بالأبحاث العلمية التطبيقية ذات النتائج المتوقعة على المدى القصير ثم المتوسط، هذا الاهتمام يتعدى فقط التشجيع والتمويل، يجب علينا القيام بالآتى:
• إزالة البيروقراطية من طريق الأبحاث العلمية، الحاجة للحصول على إمضاءات لا تعد ولا تحصى مع التعامل مع موظفين يهمهم فقط استكمال الأوراق دون النظر لأهمية البحث يقتل أى سعى نحو النجاح الحقيقى.
• يجب تعديل قانون الترقيات فى الجامعات، الأبحاث التطبيقية عادة لا تؤدى إلى نشر أبحاث فى مجلات أو مؤتمرات مرموقة لكنها تحل مشكلة على الأرض، لذلك يجب أخذ ذلك فى الاعتبار. البحث العلمى يستلزم أن يكون التدريس على أعلى مستوى حتى يمكن تخريج باحثين متمكنين، إذا التدريس يجب أن يكون جزءا أساسيا من مسوغات الترقية فى الجامعات.
• من القوانين التى تحتاج إلى إعادة نظر فى جامعاتنا هى عدم السماح لعضو هيئة التدريس على درجة مدرس بالإشراف منفردا على رسائل الماجستير والدكتوراه، بل يجب أن يكون معه من هو على درجة أستاذ أو أستاذ مساعد. هذا لا يسرى فى الجامعات فى أمريكا حيث الدراسات العليا تعتبر من الأقوى فى العالم فى العلوم التطبيقية، لأن المدرس يكون عادة صغيرا فى السن وبالتالى عنده من الطاقة والقدرة على العمل ما يؤهله للعمل بكفاءة مع الطلبة، أيضا المدرس يكون عادة حديث التخرج وبالتالى معلوماته حديثه بعكس أستاذ لم يقرأ بحثا منذ حصوله على درجة أستاذ. هذا يقودنا للنقطة التالية.
• عنصر الخبرة عندنا يعتمد أساسا على السن. السن لا يدل مطلقا على الخبرة فقد يظل الشخص يعمل فى نفس المجال عدة عقود ومستواه أقل من متوسط، وقد يعمل الشخص فى مجال ما لعدد قليل من السنوات لكن المشروعات والأبحاث التى عمل بها وقدراته العقلية تعطيه خبرة أكثر من ذوى الشعر الأبيض. لذلك يجب ألا يدخل السن فى الاعتبار مطلقا.
هذه طبعًا آراء شخصية لكاتب هذه السطور وتحتمل الصواب والخطأ وتخضع للمناقشة ويكفينا فيها شرف محاولة التفكير.