بينما كان المفروض أن يكون حفل افتتاح حقل غاز «ظهر» الأسبوع الماضى مناسبة سعيدة وجامعة ولا يختلف عليها، إلا أن الحديث الغاضب للسيد رئيس الجمهورية بشأن المشهد السياسى الراهن طغى على الإنجاز الكبير الذى كان الاحتفال مقاما من أجله، ولا يزال إلى الآن محل نقاش واسع فى مصر وخارجها.
وفى تقديرى أن ما أثار دهشة وقلق الناس لم يكن مضمون حديث السيد الرئيس بل الحدة والغضب اللذين عبر بهما عن موقفه ممن اعتبرهم يعبثون بأمن مصر واستقرارها، لأن المضمون فى الحقيقة جاء متسقا مع الخطاب الرسمى السائد خلال السنوات الثلاث الماضية، خاصة فيما يتعلق باعتبار الديمقراطية ترفا لا يتحمله البلد فى ظل التحديات الأمنية والاقتصادية الراهنة، والدستور مكتوبا بنوايا حسنة لا تتفق مع الواقع المصرى، والجدل غير مفيد فى وقت يحتاج فيه الوطن للعمل والاصطفاف الكامل وراء قيادته. وما سبق يتفق أيضا مع ما يجرى على أرض الواقع من تجاهل مستمر لحقوق وضمانات منصوص عليها فى الدستور، وتقييد للنشاط الأهلى والنقابى والإعلامى، والعمل على تشويه كل من له رأى معارض.
موقف الدولة إذن واضح ولا جديد فيه، ولا أظن أن هناك ما يدعو للاعتقاد بأنه سوف يتغير من تلقاء نفسه، لا قبل الانتخابات الرئاسية القادمة ولا بعدها. أما الاعتقاد بأن ضغوطا خارجية يمكن أن تسفر عن انفراج فى المناخ السياسى والتخفيف من التضييق الراهن على النشاط الأهلى أو الحزبى فهو أمر لا يجوز التعويل عليه لأن كل تدخل أجنبى مرفوض من حيث المبدأ ولأن ما لا يتحقق من تقدم وانفراج بجهودنا وتضحياتنا الذاتية لا يساوى شيئا.
لهذا فإن كان التغيير لن يأتى من جانب الدولة كما أنه غير مطلوب من الخارج، فلا بديل من أن يتحقق بأيدينا وبتمسكنا بالعودة إلى مسار ديمقراطى سليم ورفض الاستمرار فى تخيير الشعب المصرى بين الأمن والاستقرار من جهة وبين الحرية والشراكة فى الحكم واتخاذ القرار من جهة أخرى لأن هذه المفاضلة ليست مطلوبة ولا حقيقية، بل إن الأمن والاستقرار الحقيقيين والمستدامين لن يتحققا إلا فى ظل مناخ سياسى صحى وفى حماية الدستور والقانون.
بالطبع، إننى مدرك للصعوبات والمخاطر التى تعترض طريق من يجرؤ على إبداء رأى معارض أو الإطلال برأسه فى المجال السياسى المفتوح بعيدا عن الحماية النسبية للفضاء الإلكترونى، وهى مخاطر حقيقية وقد دفع الكثيرون ثمنا باهظا لمحاولة مواجهتها. ولكن تظل هناك دائما مساحات تسمح بالحركة والعمل حتى فى إطار القوانين المقيدة والتدخلات والمضايقات، ويظل هناك جمهور لا يقل وطنية عمن هم فى مقاعد السلطة، ويهمه مثلهم أمن واستقرار البلد، ولكن يرغب فى التغيير والتقدم وفى أن يحصل الشعب المصرى على حقوقه الدستورية كاملة.
التحدى الحقيقى الذى يعترض طريق العودة لمسار ديمقراطى سليم ليس إقناع الدولة بأن تغير أساليبها، بل إعادة الثقة للناس فى أن حريتها وحقها فى المشاركة فى الحكم لن يؤديا إلى الفوضى ولا الانفلات الأمنى ولا انهيار مؤسسات الدولة، وأن غياب الحد الأدنى من الحقوق والحريات هو ما يعرض الوطن للخطر ويعرقل فرص التنمية والتقدم. هذه معركة خسر التيار الديمقراطى جولات عديدة منها حتى استقر لدى قطاع كبير من المجتمع الخطاب المعادى للحرية والدستور، وبات الحديث عن الديمقراطية مرادفا للفوضى والعنف. وما لم يتم استرجاع اقتناع الناس بقيمة الديمقراطية فلن يتحقق أى تقدم فى هذا المجال، إلا المزيد من التعليقات والمشاركات العقيمة على صفحات التواصل الاجتماعى.
هذا الخطاب المعادى للحريات لن يمكن مواجهته وتقديم بديل مقنع له إلا إذا تجاوز التيار الواسع الداعى للديمقراطية انقساماته الداخلية وعمل على إعادة بناء الجسور التى تهدمت خلال الأعوام الماضية بسبب خلافات لا قيمة لها، وأعاد للناس الثقة فى أن العمل السياسى ليس كفرا ولا خيانة ولا سعيا لهدم الدولة، بل استعداد للتضحية من أجل الصالح العام، دون توقع مكاسب أو مغانم. عندئذ فقط يكون التغيير قد بدأ.