فى الهند، أكبر ديمقراطيات العالم، جدل سياسى ساخن هذه الايام حول أرقام البطالة التى أعلنتها الحكومة فى الفترة الأخيرة وتلك التى لم تعلنها، وسبب هذا الجدل المحتدم ما كشفته صحيفة هندية من أن الحكومة تجاهلت اعلان بعض البيانات الأخيرة عن البطالة وفقا لما رصده أحد المراكز البحثية الرسمية بعدما تبين لها أن تلك البيانات تكشف عن زيادة البطالة عما كانت الحكومة قد وعدت به سابقا.
ومع أن الموضوع كان يمكن اعتباره خلافا اقتصاديا فنيا بين المتخصصين، إلا أن ما جعله يتجاوز ذلك ويتحول إلى قضية سياسية ساخنة أمران: الأول أن هناك انتخابات برلمانية مرتقبة فى شهر مايو القادم، ولأنها انتخابات حقيقية تأتى ببرلمان حقيقى له صلاحيات حقيقية فإن كشف ارتفاع معدل البطالة عما قدرته الحكومة قبل الانتخابات بأسابيع، ولو كان ارتفاعا بسيطا، يمكن أن يؤثر تأثيرا جوهريا على نتيجة الانتخابات.
أما السبب الثانى، والذى يهمنى لارتباطه بقضية الديمقراطية أو الشراكة فى الحكم اذا شئنا استخدام تعبير أقل استفزازا، فهو أن اتاحة المعلومات العامة من جانب الدولة ومصداقية هذه المعلومات يعتبران من أهم أركان الحكم الرشيد، بينما إخفاؤها أو التضليل بشأنها مخالفة جسيمة للقانون وخرقا للشفافية بل ويرقى إلى حد اعتباره أداة من أدوات السيطرة والاستبداد. وهذا ليس معيارا هنديا فقط بل مبدأ استقر عالميا ووراؤه منطق بسيط للغاية: أن الحكومة أو السلطة القائمة اذا احتكرت معرفة المتعقلة بالاداء الحكومى فإن مراقبتها ومساءلتها ومنافستها تصبح مستحيلة، سواء من جانب البرلمان أم الاعلام المستقل أم الأحزاب المنافسة.
والحقيقة أن غياب المعلومات الرسمية الدقيقة أو عدم اتاحتها للمجتمع بالقدر الكافى وفِى التوقيت المناسب يقف وراء العديد من مشاكل الممارسة السياسية والمشاركة المجتمعية التى نشتكى كثيرا من غيابها فى مصر ولا نربطها بالضرورة بفقر المعلومات المتاحة. منها مثلا المظهر الهزيل للبرلمان وضحالة تناوله لمعظم القضايا التى تطرح عليه ليس فقط لضعف تشكيله وانما ايضا لأن النواب الجادين لا تتوافر لديهم المعلومات الكافية ولا الدراسات المساندة لتكوين رأى عن المواضيع المطروحة فيتجهون أما إلى الغياب عن جلسات المناقشة، أو الاهتمام بصغائر الأمور، أو انتظار التوجيهات التى توفر عليهم مشقة البحث. كذلك فإن الاتهام الدائم للأحزاب المستقلة أو المعارضة بأنها لا تملك بديلا تقدمه للناس مصدره فى الحقيقة أن المعلومات والبيانات المتاحة لها لا تمثل سوى نسبة ضئيلة للغاية من المتاح للحكومة واجهزتها التنفيذية التى يفترض أن تكون محلا للرقابة والمساءلة، ولهذا يتجه الخطاب المعارض نحو القضايا العامة والمواقف المبدئية دون امتلاك القدرة على الدخول فى التفاصيل فيبدو للجمهور خطابا فضفاضا غير مفيد تنفيذيا.
وهنا اسمحوا لى بالتفرقة بين المعلومات النمطية التى يجرى حصرها وتحليلها والافصاح عنها بشكل دورى من جانب الأجهزة الإحصائية والاقتصادية، والتى أظن أن مصر قطعت شوطا كبيرا فيها على نحو ما يتضح من البيانات الدورية المعلنة من وزارة المالية والبنك المركزى وهيئة الرقابة المالية وكذلك من التطور النوعى الذى حققه الجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء بقيادة الوزير السابق أبوبكر الجندى، وبين المعلومات والحقائق بمفهومها الأوسع الذى يشمل الأمور الطارئة وغير النمطية وتقارير متابعة الأداء الحكومى عن الهيئات المختلفة وكل ما يتعلق بالاحداث الجارية والمستجدات المختلفة التى لا يوجد لها بند احصائى دورى. وهذا النوع الثانى من المعلومات هو الذى أرى أن الدولة فى مصر تحتكره ولا تشرك الرأى العام ولا القوى السياسية والمجتمعية فى تقييمه وتحليله.
امتلاك المعلومات واحتكارها وسيلة للسيطرة ولإضعاف القوى المعارضة فى المجتمع وقد اعتبرها أهل الهند خطرا على الديمقراطية، ولهذا فلابد من اعادة احياء الجهد الذى بذل فى أعقاب ثورة يناير لنشر ثقافة اتاحة المعلومات وإصدار قانون مناسب وعصرى لحرية المعلومات لأنها شرط أساسى لتحقيق أى نوع من الرقابة على الحكومة وأدائها.