كانت بداية هذا الشهر بإعلان الرئيس الأمريكى ترامب عن فرض تعريفات جمركية على الدولتين الجارتين المؤسستين مع الولايات المتحدة، فى عام 1992، لاتفاقية «النافتا»، التى ألغت التعريفة الجمركية عن السلع الداخلة فى التجارة بين البلدان الثلاثة، كما ألغت تدريجيًا القيود التى كانت مفروضة على حركة التجارة والاستثمار بينها.
عُدّلت الاتفاقية فى فترة حكم ترامب الأولى بمبادرة منه، بعدما وصفها بأنها الأسوأ فى تاريخ الولايات المتحدة، بما يستدعى تعديلها وهو ما حدث. استمرت الاتفاقية الجديدة، المعروفة بحروفها الأولى المنسوبة للبلدان الثلاث «يو إس إم سى إيه»، فى نهج الأولى مع تعديلات زيادة فرص التصنيع الأمريكية للسيارات والتحقق من قواعد المنشأ التجارية، وتطوير القواعد المنظمة لسوق العمل، وحررت سوق منتجات الألبان، وطورت المواد المتعلقة بقطاع التكنولوجيا والتحول الرقمى، كما دعمت من الاشتراطات البيئية، ودخلت حيز التنفيذ فى عام 2020.
حققت التجارة البينية للولايات المتحدة فائضًا لصالح المكسيك بلغ 157 مليار دولار، بينما حققت كندًا فائضًا بلغ 55 مليار دولار، بما جعلهما هدفًا لتهديد الرئيس ترامب باستخدام سلاحه الغاشم البتار الذى لوّح باستخدامه أكثر من مرة، ألا وهو زيادة التعريفة الجمركية. فإذا كان هناك ما يؤرقه من هجرة غير شرعية أشار إليه؛ فإذا ما تردد حديث عن مجرد تفكير لدول الـ«بريكس» فى عملة لها قد تستغنى بها، ولو جزئيًا، عن الدولار صرح بأن التعريفة الجمركية ستثنيهم عن هذه الفعلة؛ وإذا ما نما إلى علمه زيادات فى وفيات الأمريكان من تعاطى مخدرات الفينتانيل القاتلة المهربة عبر الحدود لم يجد فى جعبته إلا زيادة التعريفة الجمركية.
وقد صرح الرئيس الأمريكى فى أكثر من مناسبة بأن التعريفة الجمركية ستتحمل البلدان الواقعة عليها أعباءها، وستشجع التصنيع المحلى وستجبر المصدرين إلى أمريكا بتصنيع ما يصدرونه فيها، كما ستحقق دخلاً للخزانة العامة سيعوض فى تقديره نقصان الإيرادات العامة إذا ما قرر تخفيض الضرائب. وكل هذه المزايا مطعون على صحتها بالأدلة الاقتصادية الدامغة. فضرر زيادة التعريفة الجمركية يتجاوز نفعها. وحتى إن قاس من يتبناها مزاياها بمنطق أن لها أضرارًا، ولكن الخصم سيكون أكثر تضررًا منها، لكن الأوضاع الحالية للاقتصاد الأمريكى ستجعل الضرر عليه بالغ السوء. فهو لم يبرأ بعد من التضخم وتداعياته ويعتمد مستهلكوه على سلع صينية، التى أعلن الرئيس ترمب أنه سيفرض 10 فى المائة تعريفة جمركية إضافية عليها، فضلاً عن إسهام كندا والمكسيك بسلع تتمتع بمزايا نسبية فى إنتاجها كان نصيبها من الإعلان الرئاسى 25 فى المائة زيادة فى التعريفة الجمركية.
على النحو الذى تم إعلانه، فنحن بصدد بداية لحرب اقتصادية عالمية بتداعيات سلبية على معدلات التضخم ومن ثم أسعار الفائدة مع تراجع فى معدلات النمو الاقتصادى. ولهذه الحرب آثار محتمة فى الأجل القصير على البلدان النامية التى ستتعرض لمخاطر تقلبات فى أسعار الصرف وارتفاع تكاليف التمويل مع زيادة احتمالات إغراقها بسلع مستوردة.
أما عن الآثار فى الأجلين المتوسط والطويل، فهناك تداعيات لهذه السياسات الحمائية على بلدان عالم الجنوب فما حققه بعضها من إنجاز فى التنمية وزيادة فرص العمل ومكافحة الفقر منذ التسعينيات من القرن الماضى، لم يكن إلا بفضل التوسع فى تجارته الدولية تصديرًا واستيرادًا لمكونات الإنتاج وزيادة التنافسية لتحسين نوعية السلع المنتجة والخدمات المقدمة محليًا وللتصدير؛ وهو ما جذب إليها استثمارات محملة بتمويل لمشاريعها وتكنولوجيا متطورة.
وإذا ما كانت منافع التجارة الدولية حيوية للاقتصادات الأكبر حجمًا فهى لا غنى عنها للبلدان التى تعانى صغر الأسواق، بما لا يمكنها من توليد فرص عمل أو زيادة دخول سكانها اكتفاءً بمواردها المحلية. فلا بديل لها عن زيادة فرص التصدير والاستثمار لدفع النمو، ولن تؤثر إجراءات إحلال الواردات فى علاج اختلالات موازين التجارة والمدفوعات إلا فى القطاعات التى تتمتع بها البلدان بمزايا نسبية وتنافسية ممكنة لها من ذلك. فالبلدان النامية التى اتبعت سياسات صناعية فى إطار استراتيجيات متكاملة للتنمية، بتمويل منضبط لاستثماراتها حقق لها نموًا مرتفعًا، بما هيأ لها الانتقال من حدة الفقر المدقع إلى مراتب متقدمة فى الاقتصاد العالمى.
وفى ظل هذه التوترات والصراعات الجيوسياسية أصبح التعاون الدولى المنشود بطيئًا قليل التمويل، معوقًا لتطوير المؤسسات المالية والتنموية الدولية، مضعفًا لحوكمتها، وقدرتها على القيام بمهامها فى مكافحة الفقر ومعاونة الدول النامية فى التعامل مع الأزمات. ولك أن تطلع على التقرير الجديد لمركز التنمية العالمية بواشنطن تحت عنوان «مستقبل المساعدات الإنمائية الرسمية» لتعلم ما يتعرض له العون الإنمائى من تحديات مبدلة لمساره ــ وقد صدر هذا التقرير قبل التطورات الأخيرة ــ التى لم تكتمل معالمها بعد ــ لهيئة المعونة الأمريكية.
يحاول الاقتصاديون وعلماء السياسة التنقيب فى التاريخ بما يعين على فهم الهوجة الترامبية، فمنهم من يشبهها بالقرار الأحادى للخروج من اتفاق «بريتون وودز» فى عام 1971 بمنع تحويل الدولار تلقائيًا إلى الذهب، فيما عُرِف بـ«صدمة نيكسون». ومنهم من يقارن الإجراءات الحالية والتهديد بغيرها بسلسلة المناوشات والحروب التجارية التى كان أسوأها ما جرى فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى، ومن أشهرها ما يُعرَف بقانون التعريفة الجمركية «سموت ــ هولى» لعام 1930، ويعزى إلى هذه الإجراءات الحمائية ما وصل إليه الاقتصاد العالمى من أزمة الكساد الكبير، التى لم يفق منها الناس إلا بطبول الحرب العالمية الثانية.
نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط