كان من الطبيعى، وقد حلت منذ أيام قليلة، الذكرى السنوية الأولى لوفاة أديبنا الكبير الطيب صالح، أن تعود إلى الذهن ذكريات عزيزة، عن هذا الرجل الفذ، مما يطيب لى أن أشرك القراء معى فيه.
لم أكن من الأشخاص المقربين جدا للطيب صالح، مثلما كان مثلا الكاتب الموهوب محمود سالم، والناقد الكبير رجاء النقاش، ولكنه كان يدعونى من حين لآخر للانضمام إلى لقاءاته المتكررة، كلما جاء إلى القاهرة مع مجموعة صغيرة من أصدقائه، وكنت أفرح دائما بهذه الدعوة ولا أتخلف عنها قط، إذ كان مجرد وجوده فى وسط هذه المجموعة الصغيرة، يضمن سهرة حميمة رائعة، يطيب فيها السمر وتعلو الضحكات، كما نسمع خلالها كثيرا من الأفكار النيرة.
لم يكن الطيب صالح كثير الكلام، بل لعله كان أقلنا كلاما، لكنه كان مستمعا جيدا جدا، ينصت إلى كل من يحاول الكلام، وسط هؤلاء المغرمين بالكلام - وأنا منهم بالطبع- باهتمام تام، بل ويدعو الآخرين إلى الإنصات إذا رأى أن الكلام قد يكون مفيدا.
وهو أيضا ذو ضحكة من القلب يستجيب بها لأي تعليق ظريف، ولكنه كان زاهدا فى أن يثبت للحاضرين ذكاءه وألمعيته ولم يكن على أى حال بحاجة إلى ذلك، إذ كنا نعرف ذكاءه وألمعيته، ليس فقط من كتاباته، بل من تعليقاته القصيرة على ما يقوله هذا أو ذاك، بل ومن تعبيرات وجهه إزاء أى كلام سخيف، وكان يحاول أحيانا إخفاء رأيه فى مثل هذا الكلام إذ يسأل المتكلم متظاهرا بالتعجب: بالله؟!
***
لا أحب أن أمتدح شخصا بوصفه بأنه متواضع إذ إني لا أحب هذه الصفة عادة، ومن ثم لا أعتبر أنها تتضمن مديحا، فالتواضع يوحى بأن الرجل يعرف قدره تمام المعرفة، ولكنه يعامل الأقل قدرا منه كما لو كان مثله. وقد عرفت الكثيرين من المتواضعين، ووجدت أكثرهم يملأهم الغرور وإن كانوا يتظاهرون بعكسه، أما الطيب صالح فهو أفضل كثيرا من ذلك.
إنه فى الحقيقة لا يعرف قدر نفسه تمام المعرفة - أو على الأقل ليس كما نعرفه نحن-، ومن ثم فإنه يستغرب استغرابا حقيقيا من المديح والثناء، إنه بالطبع لا يغمط نفسه حقها، ولكنه يعرف جيدا أن فيه من أوجه الضعف ما فينا جميعا، ولا يحاول التظاهر بغير ذلك.. نعم، قد يكون كاتبا عظيما، ولكنه لم يخطر بباله قط - كما يخطر لكثير من الكتاب- أنه أعظم كاتب، أو حتى أنه كتب شيئا فريدا من نوعه.
حضرت له مرة، محاضرة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث احتشد الطلاب والأساتذة المعجبون به (وكانت روايته موسم الهجرة إلى الشمال) تدرس سنويا للطلاب فيعشقونها عشقا، وتُرك له أن يختار موضوع الحديث فاختار له عنوان (تفاهة أن يكون المرء كاتبا).
وحكى لنا بعض القصص الطريفة جدا من حياته والدالة على ذلك. فقال: إنه كلما حدث له شيء أو سمع ثناء يجعله يمتلئ غرورا، يحدث بعده بقليل شيء آخر أو يسمع قولا آخر يرده إلى صوابه.
وضرب على ذلك بعض الأمثلة، ومنها أنه عندما سافر من لندن إلى الخرطوم لتسلم جائزة قيمة - أظن أنها كانت من الرئيس السوداني النميرى-، وذهب لزيارة خالة له فى قريتها، فوجئ بأنها سألته: «ما هو عملك بالضبط؟» وشرح لنا الطيب صالح هذا بقوله أن خالته في حياتها البسيطة فى الريف تفهم أن يكون المرء طبيبا أو مهندسا أو مدرسا، ولكن أن يكسب المرء رزقه من كتابة حكايات وقصص - مثلما يفعل الطيب صالح- فهذا هو ما لم يخطر ببالها أنه ممكن.
ثم رفعت طالبة طيبة القلب يدها، بعد أن انتهى من حديثه لتوجه إليه سؤالا، فإذا بالسؤال «ما رأيك فى القومية العربية؟!» أو شيئا من هذا القبيل، فضحك الطيب صالح ضحكته الآسرة، وقال لها ما معناه «يا بنتي، هل تظنين أنني لمجرد أنى أعرف كيف أحكى حكاية؟ أنى أفهم أيضا في القومية العربية، أو أن لي رأيا فيها أهم من رأى غيري؟».
سمعته مرة يقول شيئا استغربته بشدة لأول وهلة ثم فهمته وتعاطفت معه، قال: إنه فى الحقيقة يجد الكتابة عملية شاقة - بل لعله استخدم كلمة «العذاب» في وصف ما يلاقيه منها-، وأنه يحب القراءة أكثر بكثير مما يحب الكتابة.
كنت أظن أن كاتبا موهوبا مثله لابد أن يجد الكتابة عملا سهلا للغاية، وأنه يجد سرورا خالصا في التعبير عن نفسه بالكتابة، ولكنى عندما تذكرت درجة الإتقان التي تتسم بها كتاباته وصعوبة استبدال كلمة بغيرها، واهتمامه الشديد بالعثور على اللفظ العربي المناسب، وخمنت قدر الجهد الذي لابد انه يبذله لتحقيق ذلك أدركت ما لا بد أن يعانيه من مشقة، وفهمت أيضا لماذا كان مقلا لهذه الدرجة أنه كان قليل الكتابة مثلما كان قليل الكلام، ولكن أظن أنه قال وكتب ما فيه الكفاية لأن يجعل ذكراه مصدر سرور متجددا لقرائه ومحبيه، وكذلك مصدر ثقة بأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.