نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب جوزيف ناى، يقول فيه إنه ما كان ينبغى على وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، أن يلغى زيارته إلى بكين، الشهر الماضى، على إثر واقعة البالون الصينى. هذه الزيارة كانت من المفترض أن تشهد تدشين وضع «حواجز حماية» للمنافسة الاستراتيجية الصينية الأمريكية. رأى الكاتب أن أنسب استراتيجية للتعامل مع بكين يجب أن تقوم على أساس التنافس لا الاحتواء، مع استمرار التنسيق الدائم بين واشنطن وحلفائها للإبقاء على نظام دولى يساعد فى تهذيب سلوك الصين... نعرض من المقال ما يلى:
عندما التقى الرئيس الأمريكى جو بايدن والرئيس الصينى شى جين بينج فى بالى فى نوفمبر الماضى، اتفقا على عقد اجتماعات رفيعة المستوى لإنشاء «حواجز حماية» للمنافسة الاستراتيجية الصينية الأمريكية. كان من المقرر أن يقوم وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكين بزيارة إلى بكين لتدشين هذا الجهد فى الشهر الماضى. ولكن عندما أرسلت الصين منطاد مراقبة فوق الأراضى الأمريكية، أُسـقِـطَـت زيارة بلينكين حتى قبل إسقاط المنطاد.
التوقيت السيئ كان لافتا للنظر. مع ذلك، ربما كان من الأفضل أن يتابع بلينكين زيارته. صحيح أن الصين ادّعَت، دون سبيل للتأكد من ادعائها، أن المنطاد كان بالونا لمراقبة الطقس ضل الطريق؛ لكن الصين لا تنفرد بعمليات التستر الاستخباراتية. الحق أن حادث الشهر الماضى يذكرنا بواقعة ترجع إلى عام 1960، عندما كان من المقرر أن يلتقى الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء السوفييتى نيكيتا خوروتشوف لإنشاء «حواجز حماية الحرب الباردة». ولكن آنذاك أسقط السوفيت طائرة تجسس أمريكية حاول أيزنهاور فى البداية تصويرها على أنها طائرة لمراقبة الطقس ضلت الطريق. نتيجة لذلك، ألغيت القمة، ولم تُـناقَـش حواجز الحماية إلا بعد اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
يرى بعض المحللين أوجه تشابه بين العلاقة الأمريكية الصينية الحالية والحرب الباردة، بعد أن أصبحت هى أيضا منافسة استراتيجية طويلة الأمد. لكن هذا القياس قد يكون مضللا. فى أثناء الحرب الباردة، لم تكن هناك تجارة أو أى محادثات تقريبا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، ولم تنشأ بين الجانبين علاقة اتكالية متبادلة بشأن قضايا مثل تغير المناخ أو الجوائح الـمَـرَضية. ويكاد الموقف مع الصين يكون عكس ذلك تقريبا. الواقع أن أى استراتيجية احتواء من جانب الولايات المتحدة ستكون مقيدة بحقيقة مفادها أن الصين الشريك التجارى الرئيسى لدول أخرى غير الولايات المتحدة.
• • •
كون قياس الحرب الباردة يشكل استراتيجية هَـدّامة لا يجعلنا نستبعد إمكانية نشوب حرب باردة جديدة. لا يزال بوسعنا أن نستمر على ذلك المسار عن طريق المصادفة. وعلى هذا فإن القياس التاريخى المناسب للحظة الحالية ليس عام 1945 بل عام 1914، عندما توقعت كل القوى العظمى حربا قصيرة ثالثة فى البلقان، لتنتهى الأحداث إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، التى دامت أربع سنوات ودمرت أربع إمبراطوريات.
لم ينتبه القادة السياسيون فى أوائل العقد الأول من القرن العشرين بالقدر الكافى إلى القوة المتنامية التى اكتسبتها النزعة القومية. اليوم، يُـحـسِـن صناع السياسات صُـنعا بعدم تكرار الوقوع فى ذات الخطأ. يجب أن يظلوا متيقظين للتداعيات المترتبة على القومية المتصاعدة فى الصين، والقومية الشعبوية فى الولايات المتحدة، والتفاعل الخطير بين هاتين القوتين. نظرا لخراقة الدبلوماسية الصينية وتاريخها الطويل من المواجهات والحوادث حول تايوان، يجب أن يساورنا القلق جميعا إزاء احتمالات حدوث تصعيد غير مقصود.
تنظر الصين إلى تايوان باعتبارها مقاطعة منشقة مارقة. منذ الزيارة التى قام بها الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون إلى الصين فى عام 1971، كانت السياسة الأمريكية مصممة لردع إعلان الاستقلال القانونى من جانب تايوان أو استخدام الصين القوة لفرض إعادة التوحيد. ولكن الآن، يزعم بعض المحللين أن سياسة الردع المزدوج عفا عليها الزمن، على أساس أن قوة الصين العسكرية المتنامية ربما تغريها بتوجيه ضربتها الآن بينما لا تزال الفرصة متاحة لها.
يُبدى محللون آخرون الشك فى هذه المزاعم. وهم يحذرون من أن الضمانة الأمنية الصريحة من جانب الولايات المتحدة لتايوان من شأنها أن تستفز الصين وتدفعها إلى التحرك، بدلا من ردعها، ولا يخفون قلقهم من أن الزيارات الرسمية الرفيعة المستوى إلى الجزيرة لا تتسق مع «سياسة الصين الواحدة« التى أعلنتها أمريكا منذ سبعينيات القرن العشرين.
حتى لو تجنبت الصين غزوا واسع النطاق واكتفت بمحاولة قهر تايوان بفرض الحصار عليها، أو الاستيلاء على جزيرة قبالة سواحلها، فإن اصطدام سفينة أو طائرة واحدة يشتمل على خسائر فى الأرواح قد يكون كافيا لإشعال شرارة تصعيد أوسع نطاقا. وإذا ردت الولايات المتحدة بتجميد الأصول الصينية أو استحضار قانون التجارة مع العدو، على سبيل المثال، فقد ينزلق البلدان بسرعة إلى حرب باردة حقيقية ــ أو حتى حرب ساخنة.
تشير إحدى ألعاب الحرب التى نظمها مؤخرا مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى واشنطن إلى أن الولايات المتحدة قد تفوز بمثل هذه المنافسة، ولكن بتكلفة باهظة لكلا الجانبين (والاقتصاد العالمى). لذا فإن الحل الأفضل لقضية تايوان يتمثل فى إطالة أمد الوضع الراهن.
• • •
زعم رئيس الوزراء الأسترالى السابق كيفين رود أن هدف الغرب لا ينبغى أن يكون تحقيق نصر كامل على الصين، بل إدارة المنافسة معها. الاستراتيجية السليمة يجب أن تتجنب شيطنة الصين بل تأطير العلاقة معها على أساسى «التعايش التنافسى». إذا تغيرت الصين للأفضل فى الأمد البعيد، فسوف يكون هذا ببساطة مكافأة غير متوقعة لاستراتيجية تهدف إلى إدارة علاقات القوى العظمة فى عصر تغلب عليه الاتكالية المتبادلة التقليدية والاقتصادية والبيئية.
يجب أن تستند الاستراتيجية الجيدة عل التقييم الصافى الدقيق. فى حين قد يتولد عن الاستخفاف بالخصم الشعور بالرضا عن الذات، فإن المبالغة فى تقدير حجمه تخلق الخوف ــ وأى من الحالين قد يؤدى إلى سوء التقدير. لقد أصبحت الصين الدولة صاحبة ثانى أكبر اقتصاد وطنى على مستوى العالم؛ ولكن حتى لو بدا ناتجها المحلى الإجمالى على المسار لتجاوز أمريكا ذات يوم، فإن نصيب الفرد فى دخلها لا يزال أقل من ربع نظيره فى الولايات المتحدة، وهى تواجه عددا من الرياح الاقتصادية والديموغرافية والسياسية المعاكسة.
لم يبلغ عدد السكان فى سن العمل فى الصين ذروته فى عام 2015 فحسب، بل إن نمو إنتاجيتها الاقتصادية فضلا عن ذلك كان فى تباطؤ، ومن الواضح أنها لديها قِـلة من الحلفاء السياسيين الملتزمين. إذا نسقت الولايات المتحدة واليابان وأوروبا سياساتها، فسوف تظل تمثل القسم الأكبر من الاقتصاد العالمى، وسوف تحتفظ بالقدرة على إنشاء نظام دولى قائم على القواعد وقادر على المساعدة فى تهذيب السلوك الصينى. هذه التحالفات القائمة منذ أمد بعيد هى المفتاح لإدارة صعود الصين.
فى الأمد القريب، نظرا لسياسات شى جين بينج الحازمة على نحو متزايد ــ بما فى ذلك التصرفات الحمقاء مثل إرسال ذلك المنطاد فى توقيت سيئ ــ ربما يكون لزاما على الولايات المتحدة قضاء وقت أطول على جانب المنافسة من المعادلة. ولكن إذا حافظت على تحالفاتها وتجنبت الشيطنة الأيديولوجية والقياسات المضللة على الحرب الباردة، فسوف تتمكن من إحراز النجاح.
إذا كانت العلاقات الصينية الأمريكية لُعبة ورق، فربما يكون بوسع واشنطن أن تقول إن الأوراق فى يدها جيدة. ولكن حتى الأوراق الجيدة قد تخسر إذا لم تُـلعَب على النحو الصحيح. إذا نظرنا إلى واقعة المنطاد الأخيرة على خلفية السياق التاريخى لأحداث عام 1914، فيجب أن تذكرنا بالسبب وراء احتياجنا إلى حواجز الحماية الآن.