هى قرية.. بل ربما قرى تمتد مستلقية فى حضن البحر الذى كلما اقتربت منه وتعطش أهلها له رزقا وعرقا واستجماما استدارت ماكينات الرمل لتبعده أكثر فأكثر. قرية فى خاصرة قرية تختصر الأزمان الطويلة بين سعفة نخلة وبلحها.. بين ورد محمديه وغصن اخضر.. قرية استفاقت فجأة على أزيز رعب ووقع من الزلازل القادمة.. ترك أطفالها الكورة التى كانوا يلعبونها.. فقراء الأمة يخلقون لعبهم وقفزاتهم وساعات فرحهم فيما هم يحلمون بتلك التى يحملها ذاك الطفل مثلهم، الذى يلعب بالألعاب الإلكترونية فيما هم لا يزالون يستقون لعبهم من بيئتهم وبعض من استطاع منهم فيشارك الآخرون.. هم أطفال أيضا، كما تقول كل تلك المعروفة باتفاقيات ونصوص إنسانية عالمية.. فالطفل حسب هذه النصوص هو كل من لم يتجاوز الثامنة عشرة.. وهم كذلك.
فى لحظة من النبش بين اللحظات لساعة من الاسترخاء بعيدا عن وقع أولئك القادمين قام هؤلاء الصغار ببعض الشيطنة، وهى التلبس بلعب الكرة فهى فى عرف البعض شيطنة ربما «شغب وفوضى».
لم يعد لهذه القرى ولا لأخوتها نهار ولا ليل.. جاء الزلزال فنثر الخوف والفزع وزعه بالتساوى بينها جميعا لم تفلت منها أى قرية.. هى المساواة فى العدالة بالظلم الجماعى! أن تتساوى هى جميعها فهى «المساواة» كما يعرفها الكثيرون.
أهلها تعلموا من هنا وهناك.. من التاريخ المغمس فى الدم إلى الحاضر المغمس فى الدم أيضا.. من مدن بعيدة لا تشبه قريتهم. مدن واسعة بسلاسل بشرية وطرقات وجادات واكتظاظ فى البشر والحجر وناطحات سحاب لم تصل قريتهم بعد.. قريتهم التى تصطف فيها البيوت كل محتضن دفء أهله. متماسك بطوبة البيت القادم.. لبنة بلبنة رصها فى راحة يده ذاك البناء الذى كان والفلاح الذى يبقى هو المسكون بهذه القرية.. سلسلة من الدفء هى.. لم تعرف سوى سنين من عرق.. عندما جاءت تلك الموجة الكبيرة من بعيد كانت كما الصوت المنادى تعالوا يا أهل القرى.. يا قرى الكون الممتد من المحيط إلى الخليج تعالوا إلى حيث عليكم ان تكونوا.. تعالوا لركب المدن الناهضة من سبات طال أمده.. فرح هؤلاء بالبشارة وراحوا ينقلونها من زقاق إلى زقاق ومن شارع إلى شارع ومن قرية إلى قرية.. جاءت البشارة لتسقط فى أحلام يقظتهم ومسار درب طويل لطالما تحدثوا عنه فى المساحات الواسعة لا فى الغرف المظلمة.. هم يعرفون أن للظلمة عمرا، كما للنور أعمار! وأنه مهما ساد الظلام الدامس مدار قراهم ومدنهم فهو لابد أن يرحل وتعود دائرة الضوء الصغيرة تكبر وتكبر وتكبر حتى تصبح كل أيامهم.
اصطفت القرى فى يوم كان وكأنه عيد العاشقين.. محبوب فى انتظار معشوقته.. رحلوا يزينون قراهم بألوان ذاك الذى يجمعهم جميعا على اختلاف ألوانهم ونظرات أعينهم ولهجاتهم تطول القوائم تلك التى كانت وتمتد لتجتاز كل القرى والمدن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.. كل جهات القلب تجمعهم.. هم كانوا فى حضرة العشق الأبدى.. حب عرفوه منذ أن كانت النخلة ظلهم والبحر غذاؤهم.. لم يعرفوا مكانا غير هذه الأرض الندية منها يعيشون وتحت ترابها اصطفوا يتسابقون فى حبها! كيف يأتى كل هذا الحب بكل هذا الموت؟ علمتهم الأزمنة المتلاحقة والأخيرة منها، تلك القادمة من مدن البشائر، علمتهم أن الحب بل العشق لا يأتى إلا بالفرح حتى ولو تأخر بعض الشىء ذاك الفرح.. عندما راح أولئك المبشرون من تلك المدن الرائعة يصيحون منادينهم تعالوا.. أسرعوا الخطأ ها هنا نحن أمامكم بل قربكم.. بل معكم.. تعالوا يا أهلى هناك فى كل القرى.
ما لبث الزمن أن عاد بهم.. راح سكان القرية يعودون إليها هى التى حضنتهم فى الأول هى التى ستحميهم فى الأخير.. عادوا وهم يرددون «هموم تؤرق جفن الندى.. وأنت حبى تذوقين الردى ألا فاهتفوا...» ما زال هناك من الزمن كثير.. ما زالت هناك قطرة هنا وحب صافى هناك.. ما زالت قلوبنا كلها مع تلك المدن والقرى المصطفة فى وحدتها وتوحشها فى الليالى الماطرات ألم.
هناك فى تلك القرى والمدن كثير من القابضين على الجمر بقلوب مشرعة وأعين تبحث بين النشرات والتحاليل المطولة عن وجه يشبه وجه قريتهم أو مدينتهم.. عن شارع يبدو أكثر ألفة من أزيزهم.. عن رسالة مغلفة بمشكاة..
هم هناك ليس لهم سوى هو يعودون إليه كل ما أظلمت الدنيا حولهم ليرددوا أنه الأكبر والأقوى والأقدر.