هذه ليست محاولة لتقييم الإعلان الدستورى الصادر منذ ما يقل عن أسبوع، وإنما لاستعراض وتلخيص ما تضمنه من مبادئ وأفكار واتجاهات عامة قد تفيد القارئ غير المتخصص أو من ليس لديه الوقت للدراسة الدقيقة. فهذا الإعلان الدستورى سوف يحكمنا لمدة لن تقل عن عام ونصف العام، ولذلك أقترح أن نتعاون جميعا فى فهم مضمونه أولا والتوعية به بين الناس قبل الدخول فى تفاصيل مناقشته وتقييمه حتى يكون الحوار مبنيا على حد أدنى من الاتفاق على الحقائق والمضمون، ثم يعقب ذلك الاختلاف على الآراء والتقييم. وقد وجدت أن أفضل وسيلة لتلخيص ما يتضمنه الإعلان الدستورى فى ثمانمائة كلمة (هى حدود مقالى الأسبوعى فى جريدة الشروق) تكون من خلال المواضيع الاربعة الآتية:
أولا: الإعلان الدستورى يتكون من (63) مادة، وافق الشعب من خلال الاستفتاء على (9) منها فقط والباقى صدر بإرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. والمواد التى يتضمنها الإعلان الدستورى بشكل عام تنقسم إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى فى (24) مادة تتعلق بالمبادئ العامة للمجتمع وشكل الدولة والحقوق والحريات العامة. أما المجموعة الثانية فتتناول السلطة القضائية واستقلالها وتنظيمها فى (7) مواد فقط. وأما المجموعة الثالثة والتى تحتل الحيز الأكبر من الإعلان الدستورى فى (30) مادة فتتعلق بالتنظيم السياسى المؤقت للدولة خلال المرحلة الانتقالية وخاصة كيفية انتخاب رئيس الجمهورية القادم وانتخاب أعضاء مجلسى الشعب والشورى وإعداد دستور جديد. هذه باختصار مواضيع الإعلان الدستورى وكذلك التوزيع النسبى لمواده الذى يؤكد أن الغرض الأساسى منه هو ترتيب الإدارة المؤقتة للبلاد خلال العام المقبل.
ثانيا: إذا عقدنا المقارنة مع دستور 1971 الملغى فقد كان يتضمن (211) مادة. ويلاحظ أن أهم المواضيع التى تم استبعادها ما كان يسمى بالمقومات الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع (الأسرة، المرأة، العمل، التعليم) والمبادئ التى تحكم الإطار الاقتصادى (الانتاج، خطة التنمية، اشتراك العاملين فى المشروعات، أشكال الملكية) وكذلك الأحكام المنظمة بالتفصيل لعمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، ثم تنظيم الإدارة المحلية، وأخيرا المواد الخاصة بتنظيم الصحافة. هذا الاختصار فى المواد وحذف أبواب بأكملها من الدستور الملغى يؤكد أن الإعلان الدستورى وثيقة مؤقتة ترمى إلى التأكيد على الأحكام الرئيسية للمجتمع فقط والضرورية لتسيير أمور البلاد لحين صدور دستور جديد وشامل.
ثالثا: أما من حيث مضمون المواد، فلو تأملنا قليلا فى شكل الدولة والحقوق والحريات الأساسية، فلن نجد فيها جديدا لافتا عن الدستور الملغى إلا فى بعض الصياغات الخاصة بطبيعة الاقتصاد. شكل الدولة هو الجمهورية الديمقراطية والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع. أما الحريات الرئيسية التى يضمنها الإعلان الدستورى فهى حق تكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب والاتحادات، وحماية الملكية الخاصة والعامة، والتساوى أمام القانون، والحرية الشخصية، وحرمة المساكن وحياة المواطن، وسرية المراسلات، وحرية العقيدة، وحرية الإعلام، وحرية الإقامة، وحق التجمع، وعدم جواز فرض الضرائب إلا بقانون، وشخصية العقوبة، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وحق التقاضى والدفاع. هذه هى الحقوق والضمانات الرئيسية. ولكن يلاحظ أنه بينما أن بعضها مذكور بشكل مطلق ونهائى، فإن بعضها الآخر ــ تحديدا حرية تكون الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحرية الرأى، وحرية التجمع، وحظر الإقامة الجبرية ــ يمكن تقييده لاحقا بالقوانين التى تنظم كلا منها. وهذا وضع طبيعى لأنها حقوق يتطلب تنظيمها أحكاما وتفاصيل لا محل لها فى إعلان دستورى، ولكنه أيضا وضع يعنى ضرورة العمل على أن تصدر القوانين المنظمة لها دون تقييد يؤدى إلى إفراغ الحق الدستورى من مضمونه كما كان الحال فى ظل الدستور الملغى.
رابعا: وأما من حيث مضمون المواد الخاصة بترتيب انتقال السلطة خلال المرحلة الانتقالية فإنها تتضمن العديد من الأحكام الجديدة والمغايرة لما كان سائدا فى الدستور الملغى. هناك شرط أن يكون المرشح لرئاسة الجمهورية حاصلا على دعم ثلاثين عضوا من البرلمان أو ثلاثين ألف مواطن أو يكون ممثلا لحزب له تمثيل برلمانى، وبالتالى إلغاء الشروط التعجيزية التى كانت موجودة قبل ذلك. وهناك تأكيد على الإشراف القضائى المستقل على انتخاب رئيس الجمهورية وعلى انتخابات البرلمان، وهناك نص جديد بشأن اختصاص محكمة النقض وحدها بالفصل فى الطعون الانتخابية مما يعنى العدول عن مبدأ «سيد قراره».
الإعلان الدستورى كذلك يحدد رئاسة الجمهورية بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ويلزم الرئيس بتعيين نائب أو أكثر خلال ستين يوما من انتخابه. أما مجلس الشورى فيستمر تعيين ثلث أعضائه وإن كان دوره يتقلص إلى مناقشة مشروعات القوانين التى تتم إحالتها إليه من رئيس الجمهورية بعدما كان فى الدستور الملغى يناقش كل مشروعات القوانين.
يلاحظ أيضا أن الإعلان الدستورى ينص على استمرار عضوية ما لا يقل عن 50% عمالا وفلاحين فى المجلسين النيابيين، ولكنه من جهة أخرى يجعل تخصيص نسبة مقاعد للمرأة جوازيا وفقا لما يحدده القانون الذى يصدر لاحقا وليس حقا ثابتا. أما من حيث البرنامج الزمنى للفترة الانتقالية فإن الإعلان الدستورى ينص على أن تبدأ إجراءات انتخابات البرلمان خلال ستة أشهر من تاريخ العمل به، أى قبل نهاية سبتمبر من هذا العام. ثم بعد ذلك تتولى وضع مشروع الدستور الجديد جمعية تأسيسية من مائة عضو ينتخبهم أعضاء مجلسى الشعب والشورى خلال ستة أشهر أخرى من تشكيل البرلمان، ثم تقوم الجمعية التأسيسية بإعداد مشروع الدستور خلال ستة أشهر ثالثة، تمهيدا لعرضه على الشعب للاستفتاء عليه. ومعنى ذلك أن أمامنا عاما ونصف العام على الأقل من العمل بالإعلان الدستورى قبل أن تنتهى المرحلة الانتقالية. وأخيرا يلاحظ أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سوف يقوم بإدارة البلاد لحين انتخاب رئيس جمهورية، كما أنه سوف يمارس سلطة التشريع لحين انتخاب مجلسى البرلمان، مما يعنى أنه خلال المرحلة الانتقالية سوف يجمع مؤقتا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
هذا ملخص شديد للإعلان الدستورى وما جاء به من أحكام جديدة وما احتفظ به من مبادئ عامة كانت فى الدستور الملغى. ولكن يظل من الضرورى التأكيد على أن مواد الإعلان الدستورى ليست نهاية المطاف. القوانين التى سوف تصدر تباعا لتفعيل مواده ــ والتى سوف يصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية ــ سوف تتضمن التفاصيل القانونية التى تحافظ على المبدأ الدستورى أو تهدره. والأهم من ذلك أن هذا إعلان لفترة انتقالية، وعلينا من الآن الاستعداد للمهمة الأصعب والأخطر وهى صياغة دستور جديد لمصر، وهى مهمة يجب البدء فيها فورا حتى تأتى نتائجها معبرة عن ضمير الأمة وما تصبو إليه من آمال كبيرة.