أمنية خليل مهندسة المعمارية شغفت بعلاقة الناس بالمكان والمعمار حتى قررت دراسة علم الأنثروبولوجى إلى جانب تخصصها الأصلى وقد شَرُفت أن أكون ضمن اللجنة المشرفة على رسالتها الرائعة حول الناس والمكان فى منطقة رملة بولاق. تعمل أمنية على توظيف معرفتها لخدمة الناس والتصرف بإيجابية فتعاونت مع وزارة التطوير الحضرى لإيجاد حلول توائم بين الخطط الرسمية لتطوير المنطقة مع المحافظة على مصالح وحقوق السكان الأصليين وأخذ رؤيتهم فى الاعتبار، وأثناء تجولها فى المنطقة مع زميل لها كجزء من عملهم هذا تم توقيفهم واقتيادهم إلى مرور الجزيرة حيث تم احتجازهم وسحب بطاقاتهم الشخصية ثم تم نقلهم إلى مرور الدراسة واستمرار احتجازهم ومعاملتهم بخشونة ــ وقيل لهم إن السبب أنهم اكتشفوا أنها ترسم خريطة للمنطقة يوجد بها مبنى المرور وعبثا حاولت أمنية إقناع الضابط أن كل تلك الخرائط موجودة بالتفصيل على موقع جوجل إيرث وأن عنوان المرور مكتوب على الانترنت. خرجت أمنية بمجموعة مصادفات واتصالات لكن كان من الممكن ألا تخرج وأن تجد نفسها متهمة بشىء ما ومحبوسة احتياطيا لأجل غير مسمى.
•••
أما د. ريم عبدالحليم الباحثة الاقتصادية المتميزة فقد حكت على صفحتها الشخصية على الفيسبوك عن محاولاتها للحصول على الخريطة الجديدة للقرى الأكثر فقرا من الصندوق الاجتماعى للتنمية، حيث أرسلت خطابا للصندوق وانتظرت طويلا حتى جاءها الرد أن عليها أن ترسل خطابا مختوما من الجامعة مع تقديم مبرر للطلب ثم تنتظر الرد. وتقول ريم: «عارفين يعنى إيه خريطة القرى الأفقر تبقى مطلوب لها جواب وختم ومبرر يعنى ببساطة المواطن ما يبقاش قادر يوصل لمعلومة هى أبسط حقوقه علشان بنى آدم إنه يعرف قريته من القرى دى ولا لأ».
تلك القصص لا هى درامية ولا استثنائية بل هى ما صدف أن سمعته خلال أسبوع واحد فقط وسط دائرة معارفى فقط وقد صارت تلك المواقف هى ما يشكل القاعدة والحياة اليومية لاعتيادية للباحثين فى مصر. كيف يتسنى للباحثين المصريين العاملين داخل مصر أن يقوموا بعملهم وهم يقضون جل وقتهم إما يطاردون المعلومة أو تطاردهم الشرطة؟
الحديث عن أزمة البحث العلمى ومركز مصر المتأخر فى هذا المجال يدور فى أغلبه حول ضآلة الميزانية المخصصة لهذا الغرض وتدور الصيغة السائدة فى هذا الموضوع حول التحسر على أن هذه الدولة أو تلك تخصص نسبة كبيرة فى الموازنة للبحث العلمى بينما أن هذه النسبة ضئيلة فى مصر. الميزانية مهمة بالطبع لكنى أزعم أن نقص الموارد المالية ليس المشكلة الأكبر، إنما المشكلة تكمن فى بيئة البحث العلمى وغياب الحرية واستخدام الأمن القومى كذريعة لحجب المعلومات ــ باختصار شديد من المستحيل أن يزدهر البحث العلمى تحت سلطة تحارب الحق فى المعرفة.
•••
أتوجه إلى المجلس العلمى الاستشارى الذى عينه الرئيس عبدالفتاح السيسى والذى مهما كانت طبيعة اختصاصه الرسمى فإن عليهم مسئولية أن يستخدموا ثقلهم الرمزى لينتصروا لقيم البحث العلمى فى مواجهة السطوة الأمنية المتربصة بأى إمكانية لإنتاج المعرفة ولدى هنا ثلاثة اقتراحات:
أولا: إنشاء مكتب لتلقى شكاوى الباحثين الذين يواجهون تعنتا فى الحصول على المعلومات والتحرك فى مواجهة الجهات التى تنتهك حق المواطنين فى المعلومات والمعرفة والذى كفله الدستور، وأيضا إنشاء خط ساخن لتلقى بلاغات القبض على الباحثين ومطاردة السلطات الأمنية لهم حيث أن تلك المسألة أصبحت واقعا يواجه الباحثين الميدانيين بصفة خاصة.
ثانيا: النظر فى القوانين التى صدرت أخيرا وإعداد تقرير حول تأثير تلك القوانين على مناخ البحث العلمى وعلى رأسها قانون التمويل، فلا يمكن تصور قيام نهضة علمية فى عالم اليوم دون وجود قواعد عاقلة وواقعية لتلقى التمويل وهى أمور غير متوفرة فى القانون الحالى.
ثالثا: البدء فورا فى خلق قنوات تواصل جادة ومستمرة مع المراكز البحثية المستقلة ومؤسسات المجتمع المدنى المهتمة بالقضايا التى تمس مناخ البحث العلمى، وعلى رأسها مؤسسة حرية الفكر والتعبير ليكونا أكثر اقترابا من المشكلات التى تواجه الباحثين وبصفة خاصة مشكلة إتاحة المعلومات.
نحن نفتخر بعلمائنا لو حصلوا على جوائز دولية أو كرمتهم تلك الملكة أو ذاك الرئيس لكننا سنفتخر بهم أكثر لو ساعدونا فى إيجاد بيئة صالحة للبحث العلمى ولو اصطفوا إلى جانب المدافعين عن الحرية فى مواجهة القمع والاستبداد.