أعرف المبعوث الأممى إلى ليبيا، أعرف غسان سلامة. أعرف عنه، ومنه، ما يجعلنى أولى خطابه الأخير فى مجلس الأمن ما يستحق من اهتمام لم أولِ مثله لخطب مبعوثين سبقوه إلى هذه المهمة. ألقى غسان خطابه وهو غاضب أشد الغضب. خشيت أن يخرج عن القراءة فيعلن بعض ما يكتم ويترك لهم القاعة والمهمة بأسرها ويخرج من ليبيا ولا يعود. لم يفعل. لم يفعل لأنه كان يعلم علم اليقين أن تخليه عن المهمة المكلف بها وحتى مع إعلان غضبه لن يفيد ولربما أضاف عقدة جديدة إلى قضية شديدة التعقيد. لعله أراد فى كلماته، وقد صيغت فى الخطاب منزوعة الانفعال، أن يقول فى نيويورك لأعضاء المجلس المسئول عن أمن العالم، لقد خدعتمونى حين وعدتم بدعمى، نواياكم لم تكن صادقة، وإرادة الفعل لم توفروها، سبقتكم إلى موائد المفاوضات أطماعكم فى ليبيا واشتغل بعضكم مثل غيركم ببيع السلاح وتنظيم الميليشيات وشراء الذمم وإفساد العقول.
سمعت غسان. كان يتكلم عن ليبيا. رحت أتخيل مجلس الأمن وقد قرر دعوة جميع مبعوثيه فى مختلف أقاليم العرب ليتكلموا ويتكلم مراقبون ومتخصصون آخرون بعد أن يتكلم المبعوث إلى ليبيا، وتساءلت هل سيكون الاختلاف كبيرا بين ما يقوله كل هؤلاء إن صدقوا وما قاله المبعوث الأممى إلى ليبيا.
***
اجتمعت قمم ثلاث فى المملكة العربية السعودية واعتقد أنها حققت الهدف الذى عقدت من أجله. ففى أعقاب قصف مواقع حساسة فى قلب المملكة وتخريب سفن راسية قرب موانئ إماراتية كان لازما للمصلحة الأمنية لدول الخليج وللمملكة السعودية ودولة الإمارات بصفة خاصة حشد أكبر تأييد ممكن للدول محل التهديد والعدوان وصياغة أكبر إدانة ممكنة للدولة الإيرانية التى هى مصدر التهديد كما يتصوره ويؤكده أصحاب الدعوة لعقد هذه المؤتمرات. صور هذه المؤتمرات والتغطية الإعلامية لها وعدد من وافق على المشاركة ومستوى الحضور وخطب المسئولين والبيانات النهائية، كلها أكدت استجابة الدول الصديقة والشقيقة إلى دعوة الالتفاف والتأييد، ولا أكثر.
أضفت «لا أكثر» لأعنى أن المؤتمرات الثلاثة لم تنعقد إلا من أجل هذا الهدف الكبير فى قيمته ولكن المحدود فى حيزه ومضمونه. لم يطلب من أحد تحريك قوات أو غلق حدود أو قطع علاقات أو التضحية بمصلحة كبيرة أو صغيرة من أجل تحقيق هكذا هدف محدود. لا شك عندى فى أن أصحاب قرار الدعوة إلى عقد هذه المؤتمرات الثلاثة اختاروا الهدف الهادئ لأنهم أدركوا ما أدركه المبعوث الأممى إلى ليبيا وغيره من المبعوثين ومراقبين ودبلوماسيين، أن الأجواء فى الشرق الأوسط غير مناسبة لانعقاد مؤتمرات بأهداف ثقيلة أو خطرة. لسنا فى حاجة لخبراء لاطلاعنا على حقيقة الأجواء فى الإقليم. أمامنا الحقيقة واضحة لمن يريد أن يراها، أما أنا فأراها فى أربع صور على الأقل هى:
أولا: صورة الغالبية العظمى من الدول المدعوة من الإقليم أو من خارجه وهى تمر بضائقة أو أخرى. بعضها مثخن بجروح عميقة خلفتها الحرب مع الإرهاب وبعضها عصرته العولمة وانكسارات النظام الرأسمالى العالمى فى آونته الأخيرة. بعضها فاقد الهوية، أو مثقل بحمل هويات متنافسة لا تقوى مؤسسات الحكم فيها والمجتمع المدنى على الفصل بينها أو على فرض التسامح على علاقاتها ببعضها البعض. مثل هذه الدول منهكة بعد بحث مستفيض عن حلول عاجلة جدا لمشكلات وأزمات لا تنتظر. منها أيضا ما أصبح فريسة سباق العمالقة نحو مناصب قيادة العالم، منها باكستان وأفغانستان وجيبوتى على سبيل المثال. هذه دول لا تحتمل التزامات جديدة.
ثانيا: صورة إقليم يلفه الاحتقان. تعبنا من محاولات الفهم والتبرير. أنشب الربيع أظافره الناعمة فاقتلعت لتعود فيما يبدو أقوى وأصلب عودا. ليس من المبالغة المفرطة القول بأن مظاهر الاحتجاج تعددت ومظاهر الرفض تعمقت، ومنها الرفض العام فى الإقليم للاختراق الإسرائيلى المستفيد من تدهور العلاقات فى منطقة الخليج. هكذا جاءت صفقة القرن متسللة تحت دخان الاحتقان فأضافت شكوكا وعمقت كراهيات، وما أقساه الكره المنغمس فى اليأس. هكذا تأتى أيضا طفرة الغاز فى شرق البحر المتوسط، تأتى محمولة على عدد عظيم من الشكوك المتبادلة ومحفوفة بأساطيل تتواجه استعدادا للاستيلاء على حقل هنا أو السيطرة على خط أنابيب هناك.
ثالثا: صورة أمم شتى تتشارك العيش فى هذا الإقليم منذ فجر التاريخ تعيش اليوم حالة الخوف من «تفلتات». واحدة من هذه «التفلتات» تكفى لتشعل النار فى كل أنحاء الإقليم. الناس فى مجالس أنسهم وداخل بيوتهم وفى مواقع عملهم وفى الشوارع وبعيدا عن الميادين يتحدثون بالهمس أو بالصراخ أحيانا عن «تفليتة» تقع فى مياه الخليج تصاب فيها بالضرر بارجة أو حاملة طائرات أمريكية فتنفتح على كل مصاريعها أبواب جهنم. أو عن «تفليتة» أخرى فى جنوب لبنان تتعمدها إسرائيل ولا يتغاضى عنها حزب الله كتغاضيه والقوات الإيرانية عن أعمال هجومية متعمدة من إسرائيل فى ضواحى دمشق. الناس فى السودان والجزائر يتوقعون بالقلق البالغ وقوع «تفليتة» بريئة أو شريرة فى نواح قريبة من مقر القيادة المسلحة بوسط الخرطوم أو فى ميدان بالعاصمة الجزائرية تطل عليه هيئة البريد. هل يعقل أن يقبل الناس العيش طويلا فى مثل هذا الاحتقان المتجدد منذ سنوات عديدة وفى ظل توقع «تفليتات» بين لحظة وأخرى، واحدة منها تكفى ليشتعل الشرق الأوسط حربا هائلة لسنوات عديدة قادمة، يخرج منها «شىء» آخر أو مسخ مبتكر فى شكل نظام إقليمى جديد.
رابعا: صورة يصعب رسمها على الورق أو نقلها إلكترونيا بهدوء وبدون مبالغة، صورة إقليم يقف على أبوابه من يزعمون امتلاك حسن النية وكلهم فى الحقيقة أشرار. أرى هناك دونالد ترامب وجون بولتون وجاك بنس وجاك بومبيو وستيف بانون وقد سبقتهم مواقف ورؤى ومعتقدات حذرتنى مبكرا من نواياهم. كبيرهم يتعمد السخرية من بعض حكام العرب أمام ناخبيه، يعنى يستخدمنا بشكل يؤذى العلاقة فى المستقبل بين الشعب الأمريكى والعرب. فعلها مرارا ويصر عليها. لا أعتقد، من موقعى كمراقب، أننى أستطيع أن أثق بنواياه تجاه مصالح العرب حكاما وشعوبا حتى إذا التزم وأقسم. أزداد اقتناعا حين أرى فى ركابه جون بولتون الذى من تاريخه ووثائق حياته وأقواله أستطيع أن أحكم بأن كره هذا الرجل للعرب يزيد أضعافا مضاعفة عن كره أعتى الكارهين للعرب من اليهود الصهاينة فى دائرة صنع القرار الأمريكى وبخاصة بعد أن انضم إليهم فريق جديد من الممولين والمقاولين الصهاينة. يكرهنا جون بولتون ويتمنى لو أتيحت له الفرصة مرة ثانية ليعلن حربا فى المنطقة ضد شعب آخر غير الشعب العراقى. كان وأعوانه السبب فى معلومة زائفة أودت بالعراق وأودت معها بأحلام شعوب أخرى إلى الدمار. وهو يحاول الآن فالإقليم جاهز للتدمير.
***
أتمنى أن تكون القمم الثلاث حققت الهدف الذى اجتمعت من أجله، وأتمنى أن تعقد مرات عديدة، يتخصص كل انعقاد لقضية من تلك القضايا التى تصنع هذا الاحتقان فى أجواء الشرق الأوسط. نعرف أن جميع قضايا الشرق الأوسط نافذة على بعضها البعض. تظن أن واحدة منها تنفرد بدولة فإذا بها جذر أصيل لقضية فى دولة أخرى أو فرع من فروعها. لا تأملوا خيرا فى الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية فهى فى أحسن الأحوال قادرة على إحباط الجهود الخيرة، وغسان سلامة آخر الشهود على سوء ما فعلت وتفعل.