ويغرق النداء أيضا - جيهان أبو زيد - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 5:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ويغرق النداء أيضا

نشر فى : الأربعاء 5 يوليه 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 يوليه 2023 - 7:50 م

بدأ الأمر بسرقة البشر، كانت أوروبا فى طريق بناء حضارتها فاحتاجت إلى عمالة ضخمة رأت أن تجلبها سرقة من القارة الأفريقية. اختل التوازن الديموغرافى فى الدول المنهوبة السكان لكن قوة أوروبا بدأت فى السطوع. اتسعت الأطماع واتجهت نحو احتلال الأمريكتين وظلت تجرف سكان أفريقيا حتى بلغ عدد المختطفين أكثر من 12.5 مليون رجل وامراة، يشير هوارد فرينش، أستاذ التاريخ الأفريقى بجامعة كولومبيا الأمريكية، أنّ 42% فقط من الأفارقة الذين اختطفوا، ظلوا على قيد الحياة. يمكن فهم حجم الخسارة إذا علمنا أن سكان قارة أفريقيا فى القرن الثامن عشر كان يقدر بـ 100 مليون نسمة.
شاركت دول القارة الأوروبية فى تفريغ أفريقيا من شبابها، وازدهر اقتصادها وبدأت المرحلة الصناعية وظهر الاحتياج إلى موارد طبيعية متنوعة، فأين يجدها الرجل الأبيض؟
إلى أفريقيا.. مرة أخرى تعود السفن الأوروبية لكن لتبقى بقوة السلاح ولتبدأ مرحلة الهيمنة العسكرية والاحتلال للدول الأفريقية قسمت الدول الأفريقية آنذاك بين سبع دول أوروبيةــ كان لبريطانيا وفرنسا النصيب الأكبر منهاــ فى مؤتمر شهير سمى مؤتمر برلين، والذى عقد بدعوة من الزعيم الألمانى بسمارك، احتاج الساسة الأوروبيون إلى مائة يوم من الجدل 1884 – 1885 لحسم نصيب كل منهم فى الكعكة الأفريقية. تعرف ويكيبيديا المؤتمر بـ«مؤتمر الكونغو» المعنى بتنظيم الاستعمار الأوروبى والتجارة فى أفريقيا.
فى سبيل تقسيمها واحتلالها أبيدت قبائل بأكملها وقتل مئات الآلاف من السكان ونهبت الثروات وباتت الموارد الطبيعية تحت سيطرة القوى المستعمرة التى لم تخرج فعليا من الأراضى الأفريقية حتى اللحظة.
اشتد عود أوروبا الصناعية وما بعد الصناعية ونخر الضعف فى أفريقيا أرض الموارد والثروات. فكيف تُستقبل الثروات البشرية المتطلعة لبلوغ أوروبا؟ تترك لتغرق على مرأى من المراقبين، مشهد جديد بتفاصيل مختلفة قليلا، ينقلب المركب المتهالك ويغيب فى ظلمة البحر ستمائة راكب وراكبة من ركابه بينهم أطفال منتصف يونيو الماضى.
لم يرغب ركاب المركب المتهالك المحمل بالشباب فى مساءلة ساسة أوروبا عن الثروات المنهوبة من عقود، ولم يفكروا فى رصد الموارد الطبيعية التى سرقت وما تزال، لم يملك أى منهم خريطة لآثار بلاده المنهوبة، ولا لمواقع النفايات الخطرة المدفونة فى بلده، لم يحمل أيهم تسجيلا للمؤامرات التى حيكت ضد بلده لإخضاعها. لم يحملوا سوى حلم وظن بأن بلدانا تتغنى بحقوق الإنسان ستتفهم حاجة الإنسان للأمان وللاستقرار وللكرامة.
لم يطلب أى منهم سوى الفرصة، لم يغامر إلا بعدما عزّت الفرص ووهنت أنوار المستقبل، لم يطلبوا حقا أكثر من تلك الحقوق المسجلة على أنها حقوق لكل البشر. لكن الاستقبال جاء مبكرا وفى عرض البحر وفى لحظة تعثر مركبهم التعس.
ذكرت وكالة أسوشيتد برس أن الأشخاص الذين كانوا على متن القارب الذى غرق قرابة اليونان كافحوا لأكثر من 15 ساعة، ثم ابتلعت المياه صراخ ما يزيد على ستمائة شخص هم ثمانون بالمائة من ركاب المركب. تنفى اليونان التى اعتادت على إعادة عشرات الآلاف من اللاجئين واللاجئات سنويا إلى عرض البحر تجاهلها نداءات المركب، لكن منصة «هاتف الإنذار» وهى شبكة غير حكومية نشطة فى مساعدة قوارب الأشخاص المهاجرين بعثت هذا البريد إلى خفر السواحل اليونانى، ووكالة مراقبة الحدود الأوروبية «فرونتكس» يوم الثلاثاء 13 يونيو، ولم تلقَ إجابة: «لقد تلقينا مكالمة من قارب فى محنة قبالة ساحل كالاماتا، على متنه 750 شخصا بينهم أطفال ونساء».
تعمل الشبكة على مدار الساعة لإبلاغ خفر السواحل بوجود قوارب بها مهاجرون ومهاجرات فى محنة فى البحر الأبيض المتوسط، حسب نشطاء «هاتف الإنذار» كان فى الإمكان تجنب المأساة. توفر المنصة خطا ساخنا (0033486517161) متاحا طوال الأسبوع وعلى مدار الساعة، وتتلقى نداءات الاستغاثة من القوارب التى تواجه صعوبة فى البحر المتوسط منذ عام 2014، أو القناة الإنجليزية التى تفصل بين فرنسا والمملكة المتحدة منذ عام 2022.
ويتركز عمل المنصة فى تحديد موقع السفن المهددة عبر الإنترنت، وإبلاغ خفر السواحل فى الدولة المسئولة عن المنطقة البحرية التى يقبع فيها القارب، وتعترف الشبكة بمقاومة عملها من دول مثل مالطا التى «نادرا ما تجيب» كما تصف تعاونها مع السلطات اليونانية بالصعب وتندد بتظاهرهم بعدم القدرة على التحدث باللغة الإنجليزية.
فى مطلع فبراير الماضى، طالبت عشرون منظمة غير حكومية فى رسالة مشتركة الرئيس الجديد لوكالة حماية الحدود الأوروبية «فرونتكس» بإنهاء عملياتها فى البحر المتوسط. كما تطرقت فى الرسالة إلى الفضائح التى تورطت فيها فرونتكس وذكرت المنظمات الإغاثية ومنظمات حقوق الإنسان فى رسالتها من بين أمور أخرى عمليات الصد والإعادة العنيفة غير القانونية للاجئين واللاجئات على حدود الاتحاد الأوروبى، والتلاعب بالتقارير الداخلية حول انتهاكات حقوق الإنسان والأشخاص المهاجرين وانتقدت تعاونها مع خفر السواحل الليبى.
المفارقة أن الهولندى، لايتنس، الذى استلم منصبه شهر مارس الماضى، قد تعهد لدى الإعلان عن تعيينه، بوضع حد لعمليات إعادة وصد الأشخاص المهاجرين وقال «أنا مسئول عن عدم تورط عناصرى فيما يسمى بالصد». كما أعلن أنه مستعد للحوار وتبادل الأفكار مع المنظمات غير الحكومية و«استعادة الثقة».
فهل يكف السيد لايتنس عن صد الأشخاص المهاجرين؟ يجيب الواقع اليومى بالنفى، فما زالت سياسات صد هؤلاء قائمة رغم سعى الاتحاد الأوروبى لتعديل شروط الهجرة واللجوء، فالقوى اليمينية النافذة فى كثير من الدول الأوروبية تتنكر لتاريخها العدوانى ولدورها فى إفقار دول الجنوب وتتنصل من المسئولية مروجة للخطر المحدق بالهوية الأوروبية حال فتح الباب أمام المهاجرات والمهاجرين، لكن آخرين يعتقدون أن شيخوخة أوروبا سوف تفرض عليها فى يوم قريب أن تفتح أبوابها، وحتى يحين هذا اليوم علينا أن نحمى ثروتنا البشرية من الغرق فى المتوسط، فلا أوروبا ولا دول الجنوب بقائمة بدون بشر.

جيهان أبو زيد باحثة بمركز جنيف للدراسات
التعليقات