تتعرض اليابان ــ كما هو الحال فى العديد من الدول الصناعيةـ ـ إلى موجة من الانتقاد الشعبى للسياسات العامة! فى زيارتى الأخيرة كرر عدد من طلاب الجامعات والمثقفين والأكاديميين الذين التقيتهم فى اليابان عن غضبهم من السياسات الحكومية العامة وعدم ثقتهم فى السياسيين على المستوى القومى. هناك العديد من المشكلات التى تعترى السياسة اليابانية، بعضها تقليدى مثل سيطرة الحزب الليبرالى الديموقراطى لسنوات طويلة على الحكم مع ضعف معظم الأحزاب السياسية الأخرى، أو مسألة تشرذم الحزب الحاكم وإدارته بواسطة العديد من المجموعات المتصارعة داخل كيان الحزب، أو مسألة السياسة الخارجية اليابانية. بعض المشكلات الأخرى جديد نسبيا مثل الضغوط الاقتصادية خاصة بعد أزمة كوفيد، لكن وفى المقابل كان رهان من التقيتهم دائما على سياسة الحكم المحلى كبديل أكثر كفاءة وارتباطا بالمواطنين والمواطنات من الحكومة المركزية!
ثقافة الحكم المركزى مترسخة فى المجتمع اليابانى والنخبة اليابانية، ورغم ذلك فإن الدستور اليابانى الذى صدر بعد الحرب العالمية الثانية والذى تم كتابته تحت وصاية أمريكية شبه كاملة، خصص فصلا كاملا للحكم المحلى وإن كان الوضع لم يتغير كثيرا حتى تسعينيات القرن الماضى حيث ظل للحكومة المركزية فى طوكيو اليد العليا على المحليات سواء فيما يتعلق بالأمور المالية أو ما يتعلق بالتشريعات! إلا أنه وفى عام ١٩٩٩ حينما صدر قانون الاستقلال المحلى الشامل، فقد تغيرت الأمور كثيرا، حيث لم تعد السلطات المحلية مقيدة بما هو مفوض إليها من الحكومة المركزية، ولكن قام القانون بتقييد التفويض وجعل السلطات المحلية فى وضع مستقل سواء عن السلطة المركزية من حيث الموارد المالية أو من حيث القدرة على التشريع!
• • •
تنقسم اليابان إلى ٤٧ محافظة، ورغم أن لفظ «محافظة» هو الدارج فى الترجمة من اليابانية إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات، إلا أنه وباليابانية فكل محافظة لها وضع إدارى خاص وتسمية مختلفة بحسب المساحة وعدد السكان ونسبة الحضر إلى الريف.. إلخ، وداخل كل محافظة هناك العديد من المدن والقرى والأحياء، وإجمالا يوجد نحو ١٧٠٠ قرية ومدينة، لكل منها عمدة ومجلس تشريعى يتم انتخابه مباشرة من المواطنين والمواطنات، وهو الوضع نفسه على مستوى المحافظة، حيث لكل محافظة محافظ «حاكم» يتم انتخابه مباشرة من سكان المحافظة بالإضافة إلى وجود مجلس تشريعى منتخب أيضا!
ورغم هذا التقسيم الواضح والاستقلال الذى نص عليه قانون ١٩٩٩، إلا أنه وفى العديد من الحالات تنشأ نزاعات بين السلطات المحلية والسلطة المركزية، وهنا يأتى دور لجنة فض المنازعات بين الجانبين وهى لجنة تابعة لوزارة الداخلية والاتصال وكثيرا ما تتعرض بدورها للانتقادات من السلطات المحلية تحت دعوى انحيازها للحكومة المركزية كون أن تشكيلها يتم من الأخيرة، مما دعا رئاسة الوزراء إلى تشكيل منتدى للاستشارات والتفاهم بين السلطات المركزية والسلطات المحلية يجتمع سنويا تحت إشراف رئاسة مجلس الوزراء وعادة ما ينحاز للسلطات المحلية.
يسيطر الحزب الليبرالى الديموقراطى الحاكم على الانتخابات المحلية، إلا أن أعضاء الحزب يكونون عادة أكثر تحررا من القيود الحزبية وتكون انحيازاتهم بشكل أكبر لبيئتهم المحلية، وهو أمر ساعد على قلة حدة الاستقطابات والصراعات فى الانتخابات المحلية مما يرفع عادة من درجة ثقة المواطنة والمواطن اليابانى فى السلطات المحلية.
فى مقابلة مع عمدة مدينة «كاتورى» فى محافظة «تشيبا» المتاخمة للعاصمة طوكيو، شرح العمدة لطلبتى كيف أن دور المحافظين والعمد زاد كثيرا بعد أزمة كوفيد، وكيف أنه كعمدة له العديد من السلطات بالتعاون مع المجلس المحلى للمدينة نجح فى التواصل مع المواطنين والمواطنات لتطبيق الإجراءات الاحترازية، وكذلك قام بتقدير الضرائب بالتعاون مع المحافظ وبدرجة عالية من الاستقلالية عن الحكومة المركزية. اصطحبنا المحافظ فى جولة فى مجلس المدينة بين الأقسام المختلفة التى تديرها سلطة المدينة موضحا كيف أن سكان المدينة البالغ عددهم زهاء ٧٥ ألف نسمة ممثلون فى نحو ٣٠ ألف أسرة يتعاملون بشكل يومى مع موظفى المدينة ويعرفونهم بالاسم على العكس من تفاعلهم مع الحكومة المركزية الذى لا يتم إلا عبر شاشات التلفاز! عمدة المدينة الذى هو مستقل ولا يمثل حزبا بعينه، تم إعادة انتخابه ــ بحسب شرحه ــ بسبب ثقة ودعم المواطنين والمواطنات لا بسبب انتمائه إلى أى أيديولوجية! كذلك وبحسب أحد مساعديه فهو مشهور بين شباب المدينة كونه يدير فرقة موسيقية محلية مهتمة بالـ J Pop أو موسيقى البوب اليابانية!
وفى مقابلة مع رئيسة قسم الضرائب بمدينة كاتورى، شرحت لنا الدور المهم الذى تلعبه السلطات المحلية فى جمع الضرائب من المواطنين والذى يمثل نحو ٤٠٪ من إجمالى الضرائب القومية ويتيح للسلطات المحلية المزيد من الاستقلال المادى عن الحكومة فى طوكيو، كما أنها شرحت نظاما مثيرا للاهتمام يتيح للسلطات المحلية داخل نفس المحافظة مساعدة بعضها البعض عن طريق منح القروض فى مقابل زيادة القدرة على اتخاذ القرارات فى مجلس المحافظة! كذلك شرحت لنا المسئولة عن العديد من المشكلات التى ما زالت تعترى الحكم المحلى وخصوصا فى ظل ارتفاع نسبة الأشخاص المسنين والمتقاعدين فوق الـ ٦٥ عاما واعتمادهم بشكل كلى على السلطات المحلية وخصوصا فى ظل تناقص عدد المواليد من ناحية، بالإضافة إلى هجرة الشباب إلى المدن الكبيرة مما أثر على مستوى الإنتاجية المحلية ودفع اليابان إلى سياسة دمج القرى والمدن فى محاولة لدعم الحكم المحلى!
فعلى سبيل المثال انخفض عدد الوحدات المحلية (المدن والقرى) من ٣٢٢٩ عام ١٩٩٩ إلى ١٧١٨ فقط عام ٢٠١٩، وهذا الدمج مرشح للزيادة بسبب استمرار هجرة الشباب إلى المدن الكبرى وانخفاض نسبة المواليد!
• • •
رغم ثقة المواطنة والمواطن اليابانى فى السلطات المحلية مقارنة بالسلطات المركزية، إلا أن الأرقام فى الانتخابات المحلية التى جرت فى أبريل من العام الحالى تقول بأن السلطة المحلية تواجه أزمة هى الأخرى، حيث شهدت الانتخابات انخفاضا حادا فى عدد المشاركين والمشاركات فى التصويت! ففى نحو ألف سباق انتخابى ما بين انتخابات العمد فى المدن والقرى وانتخابات المحافظين بالإضافة إلى انتخابات المجالس التشريعية، جاءت نسب المشاركة محبطة، فعلى مستوى انتخابات عمد المدن، كانت نسبة التصويت ٤٧.٧٪ تقريبا، بينما على مستوى مجالس المدن لم تتخطَ النسبة حاجز الـ ٤٥٪! ورغم التحسن النسبى لنسب التصويت فى القرى حيث بلغت نحو ٦١٪ على مستوى العمد و٥٥.٥٪ على مستوى المجالس المنتخبة، إلا أن هذه الأرقام تشير إلى انخفاض إقبال المواطنين والمواطنات على الانتخابات المحلية مقارنة بالانتخابات القومية، ففى الانتخابات البرلمانية عام ٢٠٢١ بلغت النسبة نحو ٥٦٪ تقريبا وهو ما يفسره بعض المحللين بأنه يرجع إلى ضعف المنافسة الانتخابية فى المحليات بسبب سيطرة الحزب الليبرالى الديموقراطى ومرشحيه، بينما يعزيه البعض إلى الثقة فى أداء المجالس المحلية وخاصة بعد أزمة كوفيد مما يعزز من فرصة إعادة انتخاب السياسيين المحليين وبالتالى ضعف المنافسة، فى حين يفسره البعض الآخر بأنه بسبب عدم اهتمام الكثير من الشباب بالسياسة بشكل عام وبالسياسات المحلية بشكل خاص!
• • •
أيا ما كان الأمر، تظل اليابان نموذجا مثيرا للاهتمام بخصوص سياسات الحكم المحلى، ونظل فى بلادنا فى حاجة إلى سلطات حكم محلى حقيقى لتعويض السلطوية المركزية، بدلا من وضع التجميد الحالى للمحليات!