شاهدت مؤخرا فيلما سينمائيا من أجمل ما رأيت من أفلام على الاطلاق، وقد ذكرنى بفيلم آخر قديم، انتج منذ نحو سبعين عاما، هو فيلم «سارقو الدراجات»، لفيتريو دى سيكا، والذى يعتبر حتى الآن من أفضل ما أنتجته السينما العالمية طرّا. وقد أكد لى الفيلمان من جديد، أنه على الرغم من كل ما أحرزته السينما من تقدم تكنولوجى فى السبعين سنة الأخيرة، لازالت قيمة الفيلم تعتمد على ما يقدمه من أفكار أكثر مما تعتمد على إبهار المتفرج بمختلف أساليب التكنولوجيا الحديثة فى التصوير واستخدام المؤثرات الصوتية...إلخ.
هذا الفيلم الجديد سعودى، ويعرض حاليا فى مختلف الدول الأوروبية وأمريكا، ويشترك فى المنافسة على جائزة الأوسكار، وقصته بسيطة جدا ولكنها مؤثرة للغاية، وتستحق أن تروى للقارئ.
فتاة صغيرة فى العاشرة من عمرها، اسمها «واجدة»، وهو أيضا اسم الفيلم، لا تبدو جميلة إلا عندما تبتسم، فيشرق وجهها ويكشف عن نفس صافية، وذكاء العقل والقلب. البنت تعيش مع أم شابة جميلة، وأب طيب، والاثنان يبديان لها حبا صادقا، وان كان الأب كثير التغيب عن المنزل، وكثيرا ما يلمح بتفكيره فى التزوج من زوجة ثانية (رغم انه لم يفقد حبه لزوجته) بسبب إلحاح أبويه عليه بضرورة ان يكون له طفل ذكر، وزوجته الحالية لم تعد قادرة على انجاب طفل جديد.
الأم تعذبها فكرة ان زوجها قد يتزوج بأخرى، وتتفنن فى البحث عما يمكن ان يثنيه عن عزمه. تذهب مرة مع بنتها لشراء فستان جديد، جذاب ومثير، وتسأل بنتها، وهى ترتديه، عما إذا كانت تعتقد ان اباها سيحب هذا الفستان. وهى تبذل قصارى جهدها فى إعداد أطباق جديدة من الطعام تظفر بإعجاب ضيوف زوجها من الرجال، ويبدو عليها الفرح الشديد، وهى مختفية وراء الباب (إذ ليس من المسموح أن يراها الضيوف) إذا سمعت ما يدل على إعجابهم بما طهته من طعام.
الفيلم كله، من أول لحظة فيه إلى آخره، يصف مجتمعا ذكوريا إلى أقصى درجة، يبدأ الفيلم بوقوف البنت واحدة أمام بيتها تراقب جارها، وهو ولد لطيف فى مثل عمرها، أثناء ركوبه دراجته، مزهوا بها، ويغيط واجدة بان يخطف طرحتها ويتحداها ان تلحق به لأخذها، وهو يعرف انها لا تستطيع لأنها لا تملك دراجة. والبنت على أى حال لا تجرؤ على ركوب دراجة، فهذا أمر مسموح به للذكور فقط، ليس فقط لأنه ليس من المستحب من البنت أن تظهر فى الطريق العام أمام الذكور (حتى ولو كانت فى العاشرة من عمرها) ولكن أيضا بسبب الاعتقاد الشائع بأن ركوب البنت للدراجة يفقدها القدرة على الانجاب.
ولكن فتاتنا اللطيفة والذكية، تتمتع أيضا بشجاعة القلب، ولا تنخدع بسهولة بالرأى الشائع لمجرد شيوعه، ولديها من قوة الإرادة ما يجعلها تصمم علي تنفيذ ما تعتقد أنه الصواب. انها تريد ان يكون لها دراجة، وتريد ان تثبت لصديقها الصغير أنها قادرة، متى كان لها دراجة، على أن تسابقه وأن تتفوق عليه.
تذهب (واجدة) إلى بائع الدراجات وتستفهم منه عن ثمن الدراجة. ولكنها عندما تعبر عن رغبتها لأمها تجد من الأم عزوفا تاما عن أن تشترى لها دراجة، بل واستغرابا شديدا من أن تكون لابنتها هذه الرغبة، وتكرر لها القول الشائع بأن ركوب البنات للدراجة يمنعهن من الإنجاب، فتسألها واجدة ببراءة «فلماذا إذن لم تنجبى طفلا آخر وانت لا تركبين دراجة»؟.
تتخذ واجدة قرارا بادخار كل ما يمكن ان يصل إلى يدها من نقود، حتى يكتمل لديها ثمن الدراجة، وتخترع فى سبيل ذلك مختلف الوسائل لزيادة ما يأتيها من نقود. وتراها بين الحين والآخر تخرج مدخراتها لتعدها المرة بعد الأخرى لتحسب القدر المتبقى بالضبط.
•••
البنت تلميذة فى مدرسة لتحفيظ القرآن. فنراها بين عشرين أو ثلاثين تلميدة فى مثل سنها، جالسة فى الفصل أمام المدرسة الحازمة، وقد ارتدين جميعا ثوبا أسود طويلا وفضفاضا لا يظهر منه إلا الرأس واليدان، بعد ان يمكن قد وضعن جانبا الطرحة السوداء التى يرتديها فى طريقهن من البيت إلى المدرسة وبالعكس. بعض البنات قد يقفن فى فناء المدرسة بدون طرحة، يتبادلن الحديث، وأحيانا الضحكات، فتظهر مدرستهم غاضبة وتنبههن إلى انها سبق ان حذرتهن أكثر من مرة بأن هناك رجالا فى بيت مقابل، وقد يخرجون إلى الشرفة فجأة فيرون وجوه البنات، وأنهن على أى حال يجب ألا يرفعن صوتهم إلى درجة قد تصل إلى مسمع الذكور فى البيوت المجاورة، إذ أن سماع الرجل الغريب لصوت المرأة له نفس حكم رؤيتها وهى عارية.
ثم يحدث شىء مفاجئ، تتحول واجدة بسببه إلى تلميذه ملتزمة ومطيعة إلى آخر مدى، وهو صدور إعلان من المدرسة عن مسابقة فى حفظ وفهم جزء من القرآن الكريم، والجائزة الأولى مبلغ من المال يكفى وزيادة لتمكين واجدة من شراء الدراجة.
تبدأ واجدة فى التركيز الكامل على ما يقال فى دروس شرح القرآن، وتبذل كل جهدها لتحسين طريقة قراءتها للآيات وحفظها وفهم معانيها. وتشترى لعبة كهربائية غرضها تعليم المعانى الصحيحة للكلمات. تحول الهدف الأسمى فجأة لدى واجدة إلى الفوز بالجائزة فى مسابقة القرآن الكريم لكى تستكمل المبلغ اللازم لشراء الدراجة. وأثناء الحفل الكبير المقام لإعلان اسم الفائز وتسليم الجائزة، ينتظرها صديقها الصغير عبدالله على باب المدرسة، وهو على أحر من الجمر لمعرفة النتيجة ويتمنى لها الفوز من كل قلبه. تعلن مديرة المدرسة اسم «واجدة» باعتبارها الفائزة الأولى، فيتهلل وجه واجدة فرحا، ولكن عندما تسألها المديرة عما تنوى فعله بالجائزة وتعلن ما تنويه بصراحة، وهو أنها ستشترى دراجة، يتكهرب الجو، وتضحك التلميذات، ويتجهم وجه المديرة التى تأخذ بالميكروفون وتقول ان هذا ليس من شيم البنات الفاضلات، وتعلن أنها قررت، والحال كذلك، ان تستخدم قيمة الجائزة، بدلا من اعطائها للطالبة واجدة، كتبرع من المدرسة لقضية فلسطين.
لم تصدق واجدة ما حدث، وخرجت حزينة من المدرسة، فلما سألها صديقها عما حدث أخبرته باقتضاب. يكسو الحزن وجه عبدالله ويعرض عليها دراجته كهدية ليخفف من حزنها، ولكنها استمرت فى سيرها قائلة له:
«ومن الذى سأسابقه حينئذ؟».
يقول لها انه ينوى ان يتزوجها عندما يكبر فتنظر إليه نظرة من لا يعرف ما يخبئه لهما المستقبل.
عندما تصل واجدة إلى البيت، تجد أمها حزينة بدورها لانها سمعت لتوها خبر إعلان زوجها أنه سيتزوج بزوجة ثانية. وتحتضن الأم ابنتها قائلة لها انه لم يعد لأى منهما الآن إلا الآخر، ولكن الأم تشير بيدها إلى شىء فى فناء المنزل أحضرته لابنتها كهدية، فتنظر واجدة فتجد أن أمها اشترت لها الدراجة التى تريدها.
ينتهى الفيلم بسباق بين واجدة وعبدالله، كل منهما على دراجته، وهما فى سعادة غامرة، ثم تنجح واجدة فى التفوق عليه، وتصل إلى بداية الطريق العام قبله. وتنظر واجدة أمامها إلى الطريق الممتد، وكأن المستقبل الرائع أمامها ينتظر تحقيقها لآمال أكبر وأهم.
بعث الفيلم فى نفسى سرورا غامرا، فما بالك إذا عرفت أيضا أنه أول فيلم سعودى على الإطلاق، كتبت قصته وأخرجته وكتبت السيناريو سيدة سعودية (هيفاء المنصور)، وجرى تصويره فى السعودية، مع أن الدولة ليس بها حتى الآن دار واحدة للسينما.