من المشاهد الخالدة فى السينما المصرية مشهد جموع الفلاحين فى فيلم «شىء من الخوف» وهم يحملون المشاعل ويزحفون فى تصميم وثبات إلى منزل الطاغية عتريس ويتعالى هتافهم الهادر «جواز عتريس من فؤادة باطل» وهم يلقون بكرات النار. وبتكاتف المجموع وإرادته يسقط الطاغية، الذى أرهب الفلاحين ونكل بهم ومنع عن أراضيهم المياه فى عقوبة جماعية فيها ما فيها من البطش والإذلال. على الجانب الآخر هناك مشهد آخر شهير من فيلم «توبة» الذى تقوم فيه صباح بدور راقصة أفراح ويتعرف إليها عماد حمدى الأب الأرمل الفاضل، وتحنو هى على أطفاله اليتامى ويحبونها فيتزوجها الأب ويسعد الجميع بحياة أسرية هادئة إلى أن يظهر من ماضيها الشرير محمود المليجى الذى يزعجه تركها لمهنتها فيحرض أهل البلدة عليها رافعا بالطبع شعار الدفاع عن الفضيلة. ينساق أهل البلدة دفاعا عما اعتبروه كرامة بلدتهم، وتزحف الجموع حاملة المشاعل لتطهر البلدة من الدنس وتهدر بالهتاف الذى صار مثلا «الغازية لازم تنزل ــ الغازية لازم ترحل».
يتشابه المشهدان فى الشكل ويختلفان كل الاختلاف فى المعنى والمضمون. يتشابه المشهدان فى كونهما يمثلان وجهين للإرادة الشعبية وقدرتها على خلق الأحداث وتغيير الواقع أيا كان. نحن نرى فى المشهد الأول الوجه الإيجابى لإرادة الجماعة التى تنتفض ضد الظلم وتقتص من الطاغية وتنتزع حقها فى الحياة الكريمة، أما ما نراه فى المشهد الثانى فهو الانسياق الأعمى وراء التحريض السافر وإطلاق العنان لغرائز القطيع والشهوة البدائية للافتراس.
مع شديد الأسف تجلت الإرادة الشعبية فى مصر فى موقعة «ماتش الجزائر» فى صورة مخجلة ومخيفة أيضا.. والأسف أسفان. أولا لأن ما شهدناه هو تنويعه على حالة «الغازية لازم تنزل» من حيث غياب التدبر وتفاهة القضية والتفسير السطحى لمبادئ سامية (مثل الكرامة والوطنية)، هذا بالإضافة طبعا إلى كم العنف المادى والرمزى. أما السبب الثانى للأسف فهو إننا بالفعل بصدد «إرادة شعبية». للحكومة طبعا أخطاؤها وللفضائيات خطاياها وأيضا حساباتها ولكنى أتحدث هنا عن الشعب ــ عن اختياره، وبالتالى عن مسئوليته. ومن الممكن بل ومن الضرورى الفصل بين البلد والحاكم من حيث لا يشين البلد أن يخطئ حاكمه إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للشعب وكون الشعب هو البطل الرئيسى فى هذه الموقعة يحمل مصر عبئا ثقيلا من الناحيتين التاريخية والأخلاقية.
الأمور الآن بدأت تهدأ والأصوات العاقلة بدأت ترتفع والنسيان سيأتى سريعا. لكن المسئولية يجب أن تبقى معلقة فى رقبة هؤلاء المحامين الذين حرقوا علم الجزائر أمام نقابتهم والفنانين الذين أعادوا للجزائر جوائز مهرجان وهران فى لفتة لا تنم إلا عن ذوق سيئ على أحسن تقدير، والأهالى الذين اختاروا طمس علامات على نقاط مضيئة من تاريخهم وحاضرهم وثاروا مطالبين بتغيير أسماء الشوارع والمؤسسات التى تحمل اسم الجزائر وأصحاب المحال الذين علقوا لافتات بأن «المحل لا يتعامل مع الجزائريين منعا للإحراج».
سوف يسجل التاريخ هذه اللحظة كلحظة اختيار شعبى وسنحاسب عليها كشعب. فالتاريخ لا يحاسب الحكام فقط ولكنه يحاسب الشعوب أيضا.. وكما يحتفى بالإرادة الشعبية حين تنتصر للكرامة الحقّة وتقف فى وجه الظلم والظالمين فإنه لا ينسى أيضا لحظات الشطط والسقوط. سندفع غاليا ثمن اللحظة التى أطلقنا فيها العنان لغرائزنا الأولية فى طقس جماعى غير مقدس.