بخروج وزير الدفاع الأمريكى تشاك هيجل من منصبه، تكون مصر قد عرفت ثلاثة وزراء دفاع أمريكيين منذ تنحى الرئيس الأسبق مبارك عن الحكم يوم 11 فبراير 2011، روبرت جيتس ومن بعده ليون بانيتا، ثم هيجل.
ونظرا لارتكاز العلاقات بين القاهرة وواشنطن على أسس عسكرية متينة أساسها معادلة «المساعدات مقابل التعاون» سمحت أن تتطور بما يشبه الزواج الكاثوليكى، يبرز دور وزارة الدفاع الأمريكية فى عملية صنع القرار المتعلق بمصر من جانب الإدارات الأمريكية المختلفة، إلا أن هذا الدور لم يختلف باختلاف هوية وزير الدفاع.
•••
أثناء أيام الثورة الثمانية عشرة، انقسم فريق إدارة أزمة مصر داخل الإدارة الأمريكية الذى كان يبحث المستجدات لحظة بلحظة إلى فريقين ميز بينهما إضافة إلى المواقف المتعارضة فجوة جيلية واضحة. ومثل وزير الدفاع الأسبق روبرت جيتس، وهو من مواليد 1943، الفريق الأكبر عمرا كان أكثر محافظة فى تفكيره نتيجة سنوات خدمتهم الطويلة داخل أروقة الحكومة الأمريكية وتأثرهم بالتقاليد البيروقراطية المحافظة فى الشأن السياسى. فى حين رأى فريق الصغار أن ما يحدث هو ثورة حقيقية وطالبوا بدعم شبابها، فى حين طالب فريق العجائز بالتلكؤ، وعدم التخلى عن الحليف حسنى مبارك.
ومثل وجود وفد عسكرى كبير بقيادة اللواء سامى عنان، رئيس هيئة الأركان المصرية الأسبق فى واشنطن مع بدء الثورة، وبقائه لعدة أيام، فرصة للإدارة الأمريكية للتواصل مع الجيش المصرى بصورة مباشرة، والتأكيد لقادته ضرورة عدم اللجوء للعنف ضد المتظاهرين تحت أى ظروف.
وتنفس أوباما الصعداء بعدما أيقن أن الجيش لن يطلق النار على المتظاهرين. وطلب أوباما من رئيس القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل مولين صباح الثامن والعشرين من يناير، أن يذهب بأسرع وقت إلى قاعدة «أندروز» الجوية ليوجه سؤالا واحدا ووحيدا للفريق سامى عنان... «هل سيستخدم الجيش المصرى القوة ضد المتظاهرين؟»، وكانت إجابة الفريق سامى عنان قاطعة «الجيش لن يستخدم القوة أبدا ضد الشعب، مهمتنا هى حماية المتظاهرين وليس الاعتداء عليهم».
ثم أجرى جيتس اتصالات هاتفيا شبه يومية مع نظيره المصرى المشير حسين طنطاوى منذ خامس أيام الثورة. وبعد تنحى مبارك بثلاثة أسابيع زار القاهرة وزير الدفاع جيتس ليؤكد على متانة العلاقات العسكرية بين الدولتين فى مرحلة ما بعد مبارك.
•••
ثم صعد ليون بانيتا ليرأس البنتاجون، وجاءت أولى زياراته لمصر بعد ثلاثة أسابيع من وصول الرئيس محمد مرسى للحكم لتظهر حجم الاهتمام الأمريكى بالشأن المصرى. والتقى بانيتا كلا من مرسى والمشير حسين طنطاوى، مقدما التهنئة للمصريين بالتحول الديمقراطى، حاملا عدة رسائل للقيادة السياسية بمصر، كما تناول اللقاءان تعزيز سبل السلام مع إسرائيل، معربا عن قلقه من الوضع الأمنى فى سيناء.
وذكر بانيتا فى مؤتمر صحفى فى القاهرة «إن قيادة طنطاوى للمرحلة الماضية جاءت فى فترة حرجة، وقد شاهدنا إجراء انتخابات حرة وسلمية عادلة، وقد وجهت له التهنئة وللمجلس العسكرى على دورهم فى هذه العملية». وحول إمكانية حدوث تغير فى التعاون العسكرى الأمريكى مع مصر فى المرحلة القادمة خاصة مع وجود رئيس ذى خلفية إسلامية، ومدى اهتمام واشنطن بالحفاظ على الأمن وعلى الحدود مع إسرائيل، قال وزير الدفاع الأمريكى إنه «يعتقد أنه من الواضح أن مصر بعد الثورة ملتزمة بتشكيل حكومة ديمقراطية ستمثل كل المصالح فى مصر، ولهذا السبب فإننى متأكد أن الديمقراطية هنا ستكون ممثلة بشكل كامل». وأضاف أنه متأكد من أن نفس الشىء سيحدث فى مصر، ولهذا السبب سيكون هناك دعم مستمر للعلاقات العسكرية، لأن أمن مصر مهم لاستقرار المنطقة فى هذه المرحلة الانتقالية، ولدينا تاريخ فى العمل سويا بشكل متعاون مع القادة العسكريين المصريين، وسوف نستمر فى تقديم المساعدات لهم لمساعدتهم فى عملهم.
•••
ثم جاء تشاك هيجل وتطورت علاقاته مع وزير الدفاع المصرى الفريق عبدالفتاح السيسى منذ توليه لمنصب وزير الدفاع فى أغسطس 2012 خاصة بعد لقائهما فى القاهرة. وتواصل هاجل مع الفريق السيسى بصورة شبه يومية بعد ازاحة الجيش للرئيس محمد مرسى. وهكذا أصبح هيجل يمثل القناة الأهم فى التواصل مع حكام مصر الجدد خلال هذه المرحلة الحرجة من علاقات الدولتين.
ودخل هيجل على خط محاولات الوساطة بين الجيش وجماعة الاخوان المسلمين، وكان هناك خط تواصل مفتوح بلا انقطاع بين هيجل والسيسى. وقام هيجل بمهاتفة السيسى 17 مرة قبل فض الاعتصامات صباح يوم 14 أغسطس، وما يقرب من نفس العدد بين فض الاعتصامات وإجراء الانتخابات الرئاسية فى مايو الماضى، أى بمعدل يقترب من مكالمة كل ستة أيام.
•••
بيد أن تأثير غياب هيجل يبقى محدودا على علاقات واشنطن بالقاهرة، فطبقا للدستور الأمريكى يتمتع الرئيس بصلاحيات تفوق ما لدى أى مسئول آخر أو الكونجرس فى قضايا الشأن الخارجى، ولا تعد قضايا الشرق الأوسط ولا قضية المساعدات المقدمة لمصر استثناء هنا.
وجاء وصف السيسى أثناء حملة الانتخابات الرئاسية المصرية أن العلاقات مع الولايات الأمريكية بأنها علاقة استراتيجية مستقرة وثابتة، إضافة لتفهمه، كما ذكر، للمنطق الأمريكى فيما يتعلق بتجميد المساعدات العسكرية عقب أحداث الثالث من يوليو، لتعكس عدم حدوث مراجعة من الجانب المصرى لعلاقات القاهرة مع واشنطن. ورغم أن الرئيس بارك أوباما أكد أن علاقات بلاده مع مصر لن تعود لما كانت عليه، ومطالبته أركان إدارته بطرح تصورات جديدة للعلاقات بين الدولتين، إلا أن نظرة على خريطة الشرق الأوسط اليوم تظهر أن أهمية مصر لا تسمح لأى مراجعة للعلاقات من جانب واشنطن. وجاء تسليم واشنطن لطائرات الأباتشى لمصر لتؤكد بدء عودة العلاقات العسكرية التقليدية بين الدولتين.