الاحتفال بميلاد السيد المسيح، والذى تقام له الصلوات فى كنائس مصر مساء اليوم، مناسبة سنوية للتأمل فى وضع الأقباط وغيرهم من المسيحيين المصريين فى المجتمع ومدى التقدم أو التراجع الذى تحقق فى ملف المساواة وعدم التمييز، خاصة فى ظل الأحداث التى شهدتها مصر فى السنوات الأربع الماضية.
فقد بدأت هذه السنوات الأربع بمشاركة مسيحية فى ثورة يناير تعبيرا عن رفض الظلم الاجتماعى والفساد وطلبا للعدالة والحرية والمساواة، وتطورت إلى إقبال غير مسبوق على العمل السياسى والحزبى والمشاركة فى الانتخابات على أرضية وطنية لا طائفية. ثم جاءت صدمة سيطرة التيار الاسلامى - بجناحيه الإخوانى والسلفى - على البرلمان وعلى الرئاسة وعجز الأحزاب المدنية الناشئة عن التصدى لها. وتلا ذلك فترة من الترقب، ثم الغضب والاحتجاج، وانتهت بالمشاركة مرة أخرى فى الثورة على الحكم الإخوانى بعدما انحاز للأهل والعشيرة وفرض دستورا دينيا وسعى لتغيير هوية الدولة. وقد دفع الأقباط ثمنا فادحا خلال هذه السنوات، وسقط منهم القتلى والجرحى واحترقت الكنائس وتهجرت العائلات بينما الصراع على السلطة دائر بين الأطراف السياسية. لذلك فليس غريبا أنه مع استقرار الحكم بيد الدولة الجديدة، أن ينحسر الاهتمام والمشاركة فى العمل السياسى والحزبى - وهو فى ذلك لا يختلف كثيرا بين المسلمين والمسيحيين - وأن يحل محلهما تأييد الحكم الراهن وترقب ما سوف يحققه من وعود الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادى.
فما هو حال المواطنة والمساواة بعد هذا المشوار؟
لا شك أن مكاسب كثيرة قد تحققت خلال هذه الفترة وأن مشاركة المسيحيين فى الساحة السياسية والمطالبة بحقوقهم كان لها أثر كبير فى ذلك: الدستور الإخوانى سقط وحل محله دستور جديد يعيد الطابع المدنى للدولة، والكنائس المصرية الرئيسية شاركت فى كتابته، والحكومة تضم ثلاثة وزراء أقباط، والدستور الجديد جاء بأحكام واضحة بشأن المساواة وعدم التمييز وكفالة حرية العقيدة، كما أنه خصص للمسيحيين ما لا يقل عن أربعة وعشرين مقعدا فى البرلمان القادم. ولكن برغم هذه المكاسب الدستورية الهامة فإن مصر لا تزال تواجه تحديا طائفيا كبيرا على المستوى السياسى وعلى المستويين الاجتماعى والثقافى.
على الجانب العام فإن احتمال فوز مرشحين مسيحيين بمقاعد برلمانية خارج الحصة المقررة فى الدستور احتمال ضعيف، والوزراء المسيحيون يصعب أن يتولوا حقائب سيادية، والمواقع القيادية العليا المتاحة فى قمة الجهاز الإدارى للدولة محدودة، والقيود لا تزال مفروضة على بناء وتجديد الكنائس بسبب قوانين ترجع للدولة العثمانية، ولا يوجد إلى الآن قانون رادع لمنع التمييز الدينى. نحن إذن أمام وضع يتمتع فيه المسيحيون بمزايا وحقوق دستورية عديدة وهامة، ولكنها تظل محدودة بسياج طائفى صارم، لا يجوز تجاوزه ولا التفكير بعيدا عنه، يعمل على تنظيم الطائفية فى المجتمع بدلا من نبذها والانتصار عليها.
وأما على الجانبين الاجتماعى والثقافى، فإن المجتمع لا يزال للأسف منقسما على أسس طائفية واضحة وعميقة تكاد تكون فاصلة بين عالمين: الحضانة والمدرسة الخاصة، والطبيب، والعيادة، وفرصة العمل، وحتى البقال، والحلاق، والصيدلية، كلها مساحات منعزلة طائفيا، والشاب المصرى لا يكاد يلتقى بقرينه من الطائفة الأخرى إلا فى المدرسة الحكومية وفى المستشفى العام وعند أدائه للخدمة العسكرية وإذا التحق بوظيفة حكومية. القطاع العام والخدمات العامة تتيح فرصة التعايش المشترك، أما فى العالم الخاص فإن هناك حاجزا زجاجيا يفصل بين عنصرى الأمة، وجهلا بالجانب الآخر يصب فى مصلحة التطرف والتعصب والتمييز.
كيف يمكن إذن الانتصار على الطائفية وبناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة؟
فى تقديرى أن هذا لن يكون ممكنا إلا باستمرار التجربة التى بدأت فى الخامس والعشرين من يناير، حينما تبنى المسلمون والمسيحيون معا أجندة إصلاح وطنية لا طائفية قوامها العدالة والحرية والمساواة وليس توزيع الحصص والمناصب على أساس دينى، وبإدراك أن تراجع هذه الشراكة وتراجع العمل السياسى والحزبى عموما والاعتماد على الحلول الطائفية وحدها لن يؤدى إلى بناء دولة المواطنة بل إلى مزيد من الترسيخ والتدعيم للطائفية فى المجتمع وفى المجال العام.
المكاسب الدستورية والقانونية التى تحققت ليست بالأمر البسيط، ولكن التحدى اليوم هو عدم التوقف عندها واعتبارها نهاية المطاف، بل البناء عليها من خلال إصدار قانون لمنع التمييز عموما والتمييز الدينى على وجه الخصوص، وإتاحة فرص العمل المتكافئة فى القطاعين العام والخاص، وتنظيم بناء وتجديد دور العبادة، وتشجيع عمل الجمعيات الأهلية والمؤسسات التعليمية التى تسعى للتقارب والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، والاقتناع بأن النشاط السياسى والحزبى والنقابى ضرورى لبناء الجسور وجمع المواطنين على قضايا اجتماعية تتجاوز انتماءاتهم الطائفية. هذه مسئولية الدولة وعلى الأحزاب والقوى السياسية أن تساهم فيها وتقف موقفا واضحا ضد الطائفية والتمييز مهما كانت تكلفة ذلك انتخابيا وجماهيريا فى المدى القصير.
التحدى الذى يواجهنا اليوم ــ نحن المسلمين والمسيحيين الحريصين على بناء دولة مدنية حقيقية ــ هو عدم الاكتفاء بما تحقق على الجانب الدستورى بل التمسك بحلم تأسيس مجتمع جديد لا يقبل بالطائفية أصلا والعمل على استكمال مسار المواطنة الكاملة والمساواة وعدم التمييز.
مع تمنياتى لمصر وكل المصريين بمولد نبوى شريف وعيد ميلاد مجيد وعام جديد سعيد