ليس من السهل أن نتصور ظهور يوسف إدريس وقصصه ومسرحياته، لو لم تحدث ثورة 23 يوليو 1952، فى حين أن من السهل تصدر نجيب محفوظ ومعظم قصصه ورواياته بدونها، حتى ما كتبه منها بعد الثورة. كان يوسف إدريس بلا شك «ابن ثورة 1952»، وان كان قد كتب أشياء قبلها. لم يكن غريبا إذن أن يتوقف يوسف إدريس عن كتابة القصص بعد حدوث الهزيمة العسكرية فى 1967، باستثناءات قليلة وغير مهمة، وباعترافه هو شخصيا، إذ كتب ما معناه «كيف يجلس شخص لكتابة القصص وبيته يحترق؟».
ما يصدق على يوسف إدريس فى هذا الأمر يصدق أيضا على صلاح جاهين، فأهم أعمال جاهين انتجت قبل الهزيمة، على الرغم من أنه عاش بعدها ما يقرب من عشرين عاما، وكأنه هو أيضا وجد من الصعب أن يكتب وكأن شيئا لم يحدث لوطنه.
إننى أميل إلى تفسير التغير الذى طرأ على الثقافة المصرية بعد الهزيمة العسكرية، بما طرأ على نفسية المصريين (والأدباء والفنانين بصفة خاصة) من هبوط مستوى الآمال وقلة التفاؤل بالمستقبل. وقد استمرت هذه الحالة البائسة نحو خمس سنوات، وحتى نجاح الجيش المصرى فى عبور قناة السويس فى أكتوبر 1973، ولكن تأثير هذا النجاح على الثقافة المصرية كان محدودا للغاية، بالمقارنة بتأثير قيام ثورة 23 يوليو، إذا أخذنا فى الاعتبار ليس فقط كمية القصص أو الروايات أو الأفلام أو الأغانى التى أشادت بحرب أكتوبر بالمقارنة بتلك التى تناولت ثورة يوليو، ولكن أىضا درجة العمق فى المشاعر وقوة الأمل والتفاؤل اللذين أثارهما الحادثان. تفسير ذلك، فيما أظن، يرجع إلى نوع التطورات السياسية التى طرأت بعد وقت قصير من العبور، والتى اعتبرها كثيرون من المصريين لا تحقق ما آثاره العبور من آمال، كما يرجع إلى ما أعقب هذا العبور من انقلاب فى السياسة الاقتصادية، وهو ما عرف منذ ذلك الوقت باسم «الانفتاح».
•••
إننى أعتقد أن أثر التحول إلى سياسة الانفتاح فى مصر فى منتصف السبعينيات كان أثرا سيئا بل وسيئا جدا ولكننى أسرع بذكر تحفظ مهم. إننى لا أقصد أى انفتاح بل هذا الانفتاح بالذات: كيف ومتى حدث وما اقترن به من أحداث الهزيمة العسكرية قبله والتضخم والهجرة بعده. إن الانفتاح على العالم له أثر إيجابى على الثقافة بما يؤدى إليه من تنشيط الذهن وتوسيع الأفق وهو ما حدث أيضا فى مصر ولكن هذا الأثر اقترن بعوامل مضادة «هى ما سوف أذكره الآن» وكان لابد أن يستغرق بعض الوقت «بل وربما كان يحتاج لجيل جديد» حتى نرى نتائجه على الساحة الثقافية.
لقد انقسم المصريون فى موقفهم من الانتفاح الاقتصادى إلى قسمين كبيرين: قسم يتكون من شريحة صغيرة جدا فى أعلى السلم الاجتماعى، بالإضافة إلى شريحة واسعة جدا قرب قاع المجتمع، وكلتا الشريحتين رحبتا بالانفتاح ولكن لأسباب مختلفة جدا. الشريحة الصغيرة فى أعلى المجتمع رحبت بالانفتاح لما وفره لها من فرص جديدة للتربح وزيادة الثروة (تحرير التجارة والاستيراد، وتجارة العملة، أعمال المقاولات، تأجير البيوت المفروشة ..الخ) فضلا عن إشباع رغبات لديها للاستهلاك ظلت مكبوتة لما يقرب من عشرين عاما. هذه الشريحة لم «تضار» بالتضخم بل كانت هى المستفيدة منه، إذ كان لديها دائما من الوسائل ما تزيد به من دخلها بأسرع من زيادة الأسعار. أما الشريحة الواسعة من أصحاب الدخول المحدودة، فقد وجدت أمامها فرصا جديدة لزيادة دخلها عن طريق الهجرة إلى دول البترول (أو للحلول محل من هاجر إلى هذه الدول). هؤلاء ذهبوا وعادوا ومعهم السلع الاستهلاكية الجديدة التى أصبحت رمزا للحياة السعيدة (كالتليفزيون الملون والمروحة اليابانية)، ومعهم أيضا من المدخرات ما يسمح لهم بتجديد منازلهم، وربما بناء بيوت بالطوب الأحمر بدلا من الطوب النئ، أو بشراء سيارات تستخدم كتاكسى.
هذا القسم بشريحتيه رحب بالانفتاح، وارتفعت آماله فى تحقيق المزيد من النجاح، ولكن المثقفين من المصريين (ومن غير المصريين فيما أظن) لا ينتمون عادة إلى أى من هاتين الشريحتين، بل إلى قسم آخر من المجتمع يقع بين المنزلتين، لا هو استفاد من التضخم، ولا هو مفتون لهذه الدرجة بالسلع الكمالية التى تخلب لب الشريحة القريبة من قاع المجتمع، وتجعلها متلهفة على السفر للعمل فى الخليج، والتى تعتبرها الشريحة العليا من المجتمع من بين الضروريات الأساسية للحياة. هذا القسم من المصريين، ينتمى إلى الطبقة الوسطى التى يخرج منها المثقفون، وله آمال وطنية قوية، ظهرت من سياسة الانفتاح وما اقترن بها من سياسات خارجية وعربية ما يتعارض معها، وله أيضا من القدرة على التذوق، فى ميدان الثقافة، ما جعله يستهجن ما جاءت به الحياة اليومية بعد الانفتاح من أعمال ثقافية رديئة لا تستهدف إلا الربح، وإعلانات تستهدف نفس الشىء، وتصرفات غير أخلاقية تتلاءم مع هذا كله قوى كل هذا من شعور هذا القسم من المجتمع بالإحباط، وأضعف همة الموهوبين منهم على المساهمة فى الحياة الثقافية.
ولكن التدهور الذى لحق بالحياة الثقافية فى مصر ابتداء من منتصف السبعينيات لم يكن يرجع فقط إلى «ظروف العرض» (أى إلى ما أصاب منتجى الثقافة من مشاعر الإحباط والتشاؤم بالمستقبل) بل تأثر أيضا بـ«ظروف الطلب». إذ إن العوامل التى ضعضعت من قوة الطبقة الوسطى المصرية (كالتضخم الجامح مثلا) زادت هى نفسها من القوة الشرائية لدى مستهلكين جدد للثقافة، أشد رغبة فى تحقيق التمتع العاجل بالحياة، ولكنهم أقل قدرة على تذوق الأعمال الثقافية الأكثر تعقيدا.
•••
هل لنا أن نستغرب الآن، عندما نتذكر أنه فى السنوات الأخيرة من السعبينيات، كان أحمد بهاء الدين يترأس مجلة ثقافية فى الكويت وليس فى مصر، وأحمد عباس صالح يشتغل فى العراق ثم فى لندن، وعبدالمعطى حجازى ومحمود العالم فى باريس، وبهاء طاهر فى جينيف.. إلخ، فضلا عن عشرات من أساتذة الجامعات المصرية الذين ذهبوا للتدريس فى مختلف بلاد الخليج. نعم كانوا كلهم يتلقون هناك رواتب أعلى بكثير مما كان يمكن أن يحصلوا عليه فى مصر، ولكننى أزعم أن «عامل الجذب» فى هذه الحالة، كان أضعف كثيرا من «عامل الطرد» وأقصد بعامل الجذب، ضخامة الرواتب، وبعامل الطرد مختلف الظروف المحبطة التى انتجتها سياسة الانفتاح.
عندما قام السادات باعتقال عدد كبير من المثقفين فى 1981، كان يفهم جدا ما يعتمل فى صدور هؤلاء وما يدور فى أذهانهم. فالرجل، وان لم يكن رجلا حكيما، لم يكن قليل الذكاء. ولكن من المؤكد أيضا أن ما أصاب الثقافة المصرية من جراء سياساته لم يكن يحظى بمرتبة عالية بين أولوياته.