قبل سنوات بعيدة سافرت إلى مدينة «جرينوبل» فى فرنسا. وصلتها بالقطار من «ليون».
«ليون» نقطة وسطى تبلغك هضبة «الماسيف سنترال» غربا، وتوصلك إلى جبال الألب باتجاه الحدود السويسرية والإيطالية شرقا.
تقع «جرينوبل» فى قلب جبال الألب. الصعود إليها يحقق منافع عدة، أولها رؤية أشهر جبال أوروبا «مون بلون» (الجبل الأبيض) من بعيد. وهى معروفة فى خرائطنا المدرسية بـ«مونت بلانك».
ويستمد هذا الجبل الأبيض اسمه من قبعة الجليد الضخمة التى تغطى قمته، وتحتها صخور رسوبية كانت جزءا من قاع بحر «تيثس» العظيم.
وبياضه ليس بياض الجرانيت الفاتح، الذى أطلق عليه أهلنا البشارية فى حلايب بجنوب شرق مصر بلغتهم «إلبا»، وحرفناه نحن فى الكتب الدراسية إلى «علبة»، تمادى البعض فى التحريف بضم العين فأصبح «علبة»، وهو خطأ جسيم.
يقف «مون بلون» خلف الحد الفرنسى/الإيطالى، وبدرجة ما يمثل نقطة التقاء الحدود «السويسرية/الإيطالية/الفرنسية» فى نموذج مشابه لجبل «العوينات» ملتقى حدود «مصر/ليبيا/السودان».
يشاغل الجبل الأبيض ركاب القطار حين تنقله صعودا بين المنحدرات إلى أن يصل محطة «جرينوبل».
مدينة «جرينوبل» لها سمات جد فريدة. تضم أطراف الثقافة الإقليمية وروح جبال البحر المتوسط، وفيها أيضا تقاليد عسكرية، وآثار للصراع الفرنسى الإيطالى.
وصخور جبال الألب رسوبية صلدة، تتخللها كهوف ومغارات بديعة، يزورها الناس للاستجمام والاستمتاع بمشاهد مبهجة، تمتد من الجبل إلى خانق نهر الرون.
فى المدينة الرائعة المعلقة على الجبل ولد «أنطوان بارتميلى كلوت»، الذى اشتهر فى مصر لاحقا بـ«كلوت بك»، الذى منحه «محمد على باشا» لقب البكوية، ذلك اللقب الذى ظهر فى القرن العاشر الميلادى مع أتراك آسيا الوسطى ويعنى «السيد».
اسمه الأول «انطوان» واسمه الثانى «بارتميلى» نسبة إلى اسم إنجيلى هو الشهيد «برْثولماوْس».
واسم عائلته «كلوت» هو الأشهر، وما يزال هناك شارع باسمه إلى اليوم فى القاهرة.
وتشير القواميس إلى أن أصل اسم «كلوت» ألمانى، من كلمة «كلوتس Klotz » ولها عدة معان، منها «رجل ضخم الهيئة».
ولد «كلوت بك» فى «جرينوبل» عام 1793 أى قبل 5 سنوات من حملة نابليون على مصر، وكان أبوه ضابطا فى الجيش الفرنسى وشارك فى الحملة العسكرية على إيطاليا، ولم يستطع المشاركة فى الحملة على مصر.
تعلم أنطونيو تعليما أساسيا واهتم بالطب، ومن الطريف أنه بدأ حياته العملية حلاقا للقرية على شاكلة حلاقى الريف المصرى إلى أواخر القرن الماضى، وتمكن من مواصلة دراسة الطب حتى حصل على دبلوم فى الصحة من مدينة مونبلييه عام 1820 وظل يعمل هناك 5 سنوات حتى عام 1825.
بالتزامن، كان محمد على باشا قد رسخ حكمه فى مصر بعد 20 سنة من توليه السلطة. وكان مفتونا بالخبراء الفرنسيين فى بناء الجيش والأسطول، ونقل مصر إلى حالة جديدة بعد سنوات التأخر على يد المماليك الذين يحكمون البلاد من الباطن لصالح الدولة العثمانية.
أصبح «كلوت» طبيبا شابا، وعمره لا يزيد على 32 سنة، وحينها تلقى عرضا للسفر إلى مصر للعمل بخدمة الباشا، وكان اللقب الذى ينتظره «جراح باشى».
قصة كلوت بك فى عالم الطب فى مصر معروفة، ولم يستدعه محمد على للاهتمام بصحة المصريين فى البداية بل بصحة العساكر لضمان جيش قوى صحيح البنيان. وقدم كلوت بك خدمات جليلة حتى وفاته عام 1868.
عاد الخديوى إسماعيل من رحلته إلى باريس متأثرا بالعمارة فيها وحين آل إليه حكم مصر، قرر جعل القاهرة «قطعة من أوروبا»، فأمر بتطوير حى الأزبكية، وأنشأ دار الأوبرا، وحى الإسماعيلية، وشق فيها شوارع رئيسية، وتكريما للخدمات الجليلة التى قدمها الطبيب الفرنسى أمر إسماعيل بإطلاق اسم «كلوت بك» على أحد الشوارع الكبرى، يربط بين حى الأزبكية وباب الحديد.
من سوء حظ كلوت بك أن الشارع الذى يحمل اسمه بات ــ بعد احتلال الانجليز لمصر ــ مرتع لهو وخمور ودعارة.
وبعد الاحتلال البريطانى، فى عهد الخديوى توفيق، زاد توافد الأجانب على مصر، ونشطت الشركات ورجال الأعمال من الأجانب، وصعدت معهم طبقة متوسطة من المصريين الذين ارتبطوا بهم فى القطاع التجارى والمالى والخدمى، ومن بين الخدمات خدمات اللهو والجنس.
وكانت بيوت الدعارة فى الأزبكية تضم نساء من جنسيات عديدة، من السودان والنمسا والمجر والبلقان وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان، ودخلت المصريات المجال فى فترة متأخرة، وكلهن كن يبعن المتعة للأجانب فى المقام الأول.
وتدريجيا حدث تلازم بين اسم شارع «كلوت بك» وحى الدعارة فى الأزبكية، ونسيت جهود الرجل فى الطب والجراحة ومقاومة الأمراض فى مصر.
أما اليوم، فالشارع يعانى الازدحام والفوضى شبه المنظمة أو النظام شبه الفوضوى.