المصريون يعانون من محنتين كبيرتين منذ عشرات السنين: إحداهما تتعلق بالدين، والأخرى بالدنيا، «المحنة الدنيوية» تدور حول ما يواجهه المصريون من صعاب فى النهوض بأمورهم المعيشية، أى فى تحقيق التنمية الاقتصادية. و«المحنة الدينية» تدور حول الانقسام الحاد بين التيارين السلفى (بأوسع معانيه) والعلمانى (بأوسع معانيه أيضا).
ليس من السهل تحديد تاريخ البداية لكلتا المحنتين. من الممكن القول بأن محنة القيمة الاقتصادية ترجع إلى أكثر من قرن ونصف القرن، عندما ضربت تجربة محمد على الواعدة فى التصنيع بتدخل عسكرى خارجى فى 1840. فعلى الرغم من تكرر محاولات النهوض الاقتصادى عدة مرات منذ ذلك الوقت، كانت كل من هذه المحاولات تُضرب أو تُجهض عاجلا أو آجلا.
أما محنة الانقسام فى الموقف إزاء الدين، فيمكن تحديد بدايتها بأواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ظهور الانقسام حول أفكار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، ثم بوضوح أكثر مع ظهور كتابى على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وطه حسىن «فى الشعر الجاهلى» فى العشرينيات من القرن العشرين. وليس من المبالغة القول بأن الخلاف بين الفكر السلفى والفكر العلمانى الذى تفجر منذ أكثر من مائة عام لم يحسم حتى الآن، بل زادت حدة الخلاف مع مرور الزمن.
●●●
عندما قامت ثورة 25 يناير ساد بين المصريين فرح غامر لأسابيع قليلة لأسباب كثيرة، كان من بينها بلاشك ارتفاع الآمال فى قرب الخروج من هاتين المحنتين. فمع سقوط حكم حسنى مبارك، ما الذى يمنع الآن من تحقيق تنمية اقتصادية سريعة عن طريق تسليم دفة الحكم ومهمة وضع السياسات الاقتصادية لأشخاص لا يعيبهم لا فساد عهد مبارك ولا قلة كفاءته؟ بل وظهرت دلائل مبشرة بإمكانية الخروج من محنة الانقسام الدينى أىضا، عندما رأينا المتدينين والعلمانيين يشتركون فى المظاهرات جنبا إلى جنب، ومظاهر الأخوة والمروءة المتبادلة بين المسلمين والأقباط.
ولكن هذا التفاؤل لم يستمر، فى الناحيتين، أكثر من أسابيع قليلة. وها نحن الآن، بعد انقضاء أكثر من عامين على الثورة، نجد المحنتين فى أوضح صورة: شلل اقتصادى ومتاعب اقتصادية جسيمة، وعراك شديد مع تبادل الاتهامات والسباب بين ممثلى التيارين السلفى والعلمانى.
هل يمكن أن يكون لاستمرار كلتا المحنتين سبب واحد؟ هل يتعلق هذا السبب بنوع علاقتنا بالغرب والحضارة الغربية عموما؟ بحيث إننا لا يمكن أن نخرج من أى من المحنتين إلا بتغيير هذه العلاقة؟
●●●
عندما جاء نابليون إلى مصر فى 1798، أى منذ أكثر قليلا من قرنين، كانت أوروبا تعيش فورة ثورتين مبهرتين: عرفت إحداهما بالثورة الصناعية، والأخرى بحركة التنوير. وقد شهدت مصر، حتى فى الفترة القصيرة جدا التى استغرقها الاحتلال الفرنسى، بعض المظاهر السطحية لهاتين الثورتين، فيما جلبه الفرنسيون معهم من سلع وأسلحة، لم يكن المصريون قد رأوا مثلها من قبل، وما شرع الفرنسيون فى إقامته فى مصر من بعض المؤسسات العلمية والسياسية. حتى فى ذلك الوقت، ظهر فى مصر المتحمسون لمظاهر الحضارة الغربية الحديثة والكارهون لها، فى التصنيع والتنوير على السواء. وقد ظهر هذا التأثر بهذه الحضارة بوضوح فيما فعله محمد على فى الناحيتين بمجرد رحيل الفرنسيين: فى محاولة تحقيق ثورة صناعية وفى إرسال بعثات علمية إلى فرنسا، كانت بداية لحركة التنوير فى مصر، كما يظهر مثلا فى كتابات رفاعة الطهطاوى.
استمرت الحركتان، التصنيع والتنوير، فى أوروبا طوال القرنين التاليين للحملة الفرنسية، كما استمرتا أيضا فى مصر، ولكن أنتج هذا التطور فى أوروبا نموا اقتصاديا عظيما، وتقدما مستمرا نحو المزيد من تحرير العقل، كانت كل من حركة التصنيع وحركة التنوير فى مصر تسير سيرا معوجا، متعثرة ومترددة، تتقدم خطوة ثم تتأخر خطوات، تكاد تبشر بنهضة حقيقية ثم يجرى إجهاضها بقسوة.
ففيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، بعد أن شهدت مصر حركة تصنيع باهرة فى عهد محمد على ضربت بالتدخل الأجنبى فى 1840، وبعد محاولة واعدة بالتصنيع فى عهد إسماعيل ضربت بالاحتلال الإنجليزى فى 1882، وبعد محاولات طلعت حرب الناجحة فى التصنيع فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين والتى بنى عليها عبدالناصر جهوده المثمرة أيضا فى الخمسينيات والستينيات، أجهضت التنمية فى مصر بالهجوم الإسرائيلى فى 1967، ثم بالانفتاح الاقتصادى غير المنضبط فى السبعينيات.
أما قصة التنوير فى مصر فلم تكن أقل مأساوية، كان كل تقدم فى حركة التنوير، بالدعوة إلى مزيد من التحرر العقلى والنفسى، طوال القرنين الماضيين، تنشأ فى مقابله حركة مقاومة له، تثبت كراهية الجديد وتدعو إلى التشدد فى اتباع القديم.
ها نحن إذن نرى حالنا الآن، بعد أكثر من قرنين من بداية الاتصال بالغرب الحديث، لم ننجح لا فى اقتباس الثورة الصناعية ولا فى اقتباس ثورة التنوير، بينما نجحت دول أخرى فى كلا الميدانين ليس فقط فى أوروبا، بل وأيضا فى اليابان، ثم فى كوريا وماليزيا، وهناك ما يدل على بشائر مماثلة لهذا النجاح فى دول أسيوية أخرى، وخاصة فى الصين والهند، وربما أيضا فى تركيا. لماذا نجحت هذه الدول فى اقتباس الثورتين ولم ننجح نحن.
●●●
لابد أن نلاحظ أولا العلاقة الوثيقة بين الثورتين: الاقتصادية والفكرية. ففى أوروبا تزامن عصر النهضة فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر مع عصر الثورة التجارية والكشوف الجغرافية، ثم تزامن عصر التنوير فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع عصر النمو الصناعى السريع والثورة الصناعية. لست فى حاجة إلى شرح العلاقة بينهما: كيف يخدم التنوير العقلى النهضة الاقتصادية، وبالعكس أيضا كيف تخدم النهضة الاقتصادية التنوير العقلى والتحرر النفسى. لا عجب إذن أن اقترنت مأساة التنمية الاقتصادية عندنا بمأساة التنوير، نعم لقد شهدت مصر خلال القرنين الماضيين نموا اقتصاديا ملحوظا، ولكنه كان نموا منقطعا ومعوجا ومشوها. وقد شهدت مصر أيضا خلال نفس الفترة نوعا من أنواع التنوير، ولكنه كان فى كثير من الأحيان (كما وصفته فى كتاب سابق لى بهذا العنوان) «تنويرا زائفا». فكما أخذنا قشور النمو الاقتصادى من الغرب، وعجزنا أو حرمنا من أخذ جوهره، فقلدنا الغرب فى الاستهلاك وليس فى تطوير أساليب الإنتاج، كذلك فى التنوير، قلدنا الغرب فى الاستخفاف فى تقاليدنا وتراثنا دون ان نحاول استلهام الجوهر العقلانى من تراثنا والبناء عليه، كما فعلوا هم بتراثهم لم نتبين ان التنوير الحقيقى لا يعنى التنكر للتراث، بل يعنى النهوض به وتحريره من الخزعبلات.
●●●
كان سبب الفشل فى الميدانين، فى رأيى، واحدا. وهو أننا كنا نحاول عمل الأمرين (التنمية والتنوير) فى ظل تبعية للغرب: فى ظل الاحتلال العسكرى تارة، ثم فى ظل التبعية الاقتصادية والسياسية بعد انتهاء الاحتلال تارة أخرى. فلم نحصل طوال المائة والخمسين عاما الماضية إلا على تنمية مشوهة وتنوير زائف.
بل إنه مع مرور الزمن، واتساع الفجوة الاقتصادية الفكرية بيننا وبينهم، زادت صعوبة تحقيق كلتا الثورتين. زادت صعوبة التنمية الاقتصادية السوية مع مرور الزمن، ليس فقط لأنه كلما اتسعت الفجوة زادت صعوبة اللحاق بمن سبقك، ولكن أيضا لصعوبة حماية انتاجك المحلى من المنافسة الخارجية كلما زاد اتساع هذه الفجوة.
حدث شىء مماثل فى الميدان الفكرى، فقد أصاب رواد التنوير ضعف متزايد فى الثقة بالنفس، مع مرور الوقت. فكان رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك ومحمد عبده أكثر استقلالا وثراء وثقة بالنفس من جيل طه حسين، وجيل طه حسين أكثر ثقة بالنفس من جيل زكى نجيب محمود ثم جيل نصر حامد أبوزيد.
●●●
لم يكن المعارضون للتنوير بمنأى من المحنة والاضطراب. فكلما اتسعت الفجوة بيننا وبين الغرب كلما زاد تخبط الكارهين للغرب والمعارضين لأى اقتباس منه. فالعجز عن اللحاق بالأكثر تقدما يصيب العاجز بما يشبه اليأس، فينتابه التحفظ إلى درجة قد تصل إلى درجة الهوس. لهذا فى رأيى، كان المدافعون عن التراث والرافضون للتغريب أكثر عقلانية فى أوائل القرن العشرين (من أمثال رشيد رضا ومحمد فريد وجدى) ممن كانوا فى منتصفه كـ(سيد قطب) مثلا. وهؤلاء كانوا أكثر عقلانية من الجيل الحالى من رافضى التغريب (من أمثال من تتردد أخبارهم فى الصحف والقنوات التليفزيونية فى هذه الأيام)، حتى انتهينا إلى طغيان تيار ظلامى فى الفكر، إلى جانب استسلام مشين لقوى العولمة فى الاقتصاد.
كيف يمكن أن نتصور المخرج مما نحن فيه، فى كلا الميدانين، دون أن نحصل ابتداء على التحرر من التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية، كشرط من شروط التقدم فى الدنيا والدين على السواء؟