يوم 29 مارس 1954، وبعد نجاح إضراب النقل العام، ونجاح خطة إرهاب قضاة مجلس الدولة بالتعدى على رئيسه السنهورى باشا فى داخل مقر المجلس، اتخذ مجلس قيادة الثورة قراراته بإرجاء تنفيذ قرارات 5 و25 مارس التى كانت تقضى بعودة الجيش إلى ثكناته وإعادة الحياة الديمقراطية، فى الخامسة من صباح 30 مارس أنهى عمال النقل المشترك إضرابهم، وعادت وسائل النقل العام إلى العمل.
ورغم إحساس نجيب بالهزيمة وبأن استمراره مع الضباط الأحرار لم يعد له محلا، لكن مجلس قيادة الثورة احتفظ به رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء حتى تتم تصفية القوى الديمقراطية تماما، حتى لا يتكرر ما حدث فى فبراير 54.
بعد أيام قليلة بدأ تنفيذ خطة التخلص من كل القوى التى وقفت مدافعة عن الديمقراطية، فقد اجتمع مجلس قيادة الثورة فى 5 أبريل واتخذ ستة قرارات؛ القرار الأول: محاسبة المسئولين عن الفساد السياسى فى العهود الماضية، وطرق إبعادهم عن العمل فى محيط السياسة وحرمان عدد منهم من حقوقه السياسية، وبذلك يضمن مجلس قيادة الثورة التخلص من أبرز القيادات السياسية القديمة.
وكان الثانى موجها للصحافة التى انحاز أغلبها خلال أزمة مارس إلى جانب الديمقراطية، وجاء فى عبارة موجزة: «تطهير الصحافة».
أما القرار الثالث فقد أصاب الجامعات طلابا وأساتذة، وكانت جامعات مصر الثلاث قد وقفت فى طليعة القوى المدافعة عن الديمقراطية والحرية، فقرر مجلس قيادات الثورة منح سلطات للمسئولين فى الجامعات لضمان انتظام الدراسة بها، لتبدأ مرحلة جديدة تصفى فيها الحياة السياسية والفكرية داخل الجامعة لقرابة خمسة عشر عاما، حين تهب الحركة الطلابية مرة أخرى فى فبراير 1968.
كما قرر مجلس قيادة الثورة البحث فى إصدار قانون لحماية الثورة والأسس التى يقوم عليها المجلس الوطنى.
أما القراران الخامس والسادس فلا علاقة لهما بموضوع الديمقراطية أو «استمرار الثورة»، حيث نص القرار الخامس على إقامة مشروعات مهمة لمصلحة مختلف طبقات الشعب، وتنشيط الاقتصاد القومى، والقضاء على الكساد. ونص القرار السادس على اختيار عناصر صالحة فى مجالس البلديات، وحل مشكلة المواصلات بالقاهرة!
وبغض النظر عن الصيغة الفضفاضة فى القرارين الأخيرين، إلا أنهما أسسا لأسلوب ظل النظام يتبعه لسنوات عندما يريد أن يمرر قرارات وقوانين مقيدة للحريات، فإنه يخلطها ببعض القرارات والقوانين التى تبدوا أنها تحقق مطالب جماهيرية أو تخفف من الأعباء على المواطنين، فى هذه القرارات نكتشف البذرة الأولى لمنهج الدولة الاستبدادية الجديدة فى إيهام الجماهير بإمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية إذا تنازلت عن حقوقها الديمقراطية؛ ودائما كانت القيود على الحريات تتزايد ومصالح الجماهير وحقوقها تضيع، فلا يمكن أن نقايض الحقوق الاجتماعية بالحرية، فلن تتحقق العدالة الاجتماعية بدون ديمقراطية.
فى يوم 15 أبريل بدأت الخطوات العملية لتصفية الديمقراطية ومصادرة الحريات السياسية فى مصر، تلك الخطوات التى فتحت الطريق لبناء الدولة الاستبدادية التى استمرت حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، فى مواجهة أسس هذه الدولة.
ففى هذا اليوم المشئوم قرر مجلس قيادة الثورة حرمان كل من سبق أن تولى الوظائف العامة فى الفترة من 6 فبراير 1942 إلى 23 يوليو 1952 من حق تولى الوظائف العامة وعضوية مجالس إدارات النقابات والهيئات ومن جميع الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات، وطال هذا القرار السياسيين من أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين أما غير المنتمين للأحزاب فتصدر قرارات بحالتهم من مجلس قيادة الثورة، وكان فى مقدمة من شملهم القرار: الزعيم مصطفى النحاس ومكرم عبيد وأحمد نجيب الهلالى وفؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج ومحمد حسين هيكل وأحمد على علوبة والشيخ على عبدالرازق، وإبراهيم عبدالهادى وعبدالرزاق السنهورى، وكان من بين المحرومين من مباشرة الحقوق السياسية ستة من أعضاء اللجنة التى كانت مشكلة لإعداد مشروع دستور للبلاد.
وفى نفس اليوم صدر قرار بحل مجلس نقابة الصحفيين، وتعيين مجلس إدارى مؤقت لحين وضع قانون جديد للصحافة، بدعوى أن سبعة من أعضاء المجلس الاثنى عشر تقاضوا مبالغ من المصاريف السرية فى العهد الماضى، وطال الاتهام عددا من الصحفيين الوطنيين الذين دافعوا باستماتة عن الديمقراطية طوال العاميين التاليين لانقلاب الضباط الأحرار، منهم حسين أبوالفتح وأبوالخير نجيب وإحسان عبدالقدوس وفاطمة اليوسف ومرسى الشافعى وإبراهيم عبده وعبدالرحمن الخميسى وكامل الشناوى، وبدا الأمر كما لو أن الربيع الديمقراطى الذى عاشت فيه مصر بين 5 و29 مارس كان فخا لاصطياد أنصار الديمقراطية والحرية؛ وبدأت محكمة الثورة وهى محكمة عسكرية استثنائية كانت قد تشكلت فى سبتمبر 1953، فى محاكمة عددا من الصحفيين والساسة والضباط المناصرين للديمقراطية، وأصدرت بحقهم أحكاما بالسجن لمدد متفاوتة، ومن أبرز الصحفيين الذين صدرت بحقهم أحكاما بالسجن، محمود أبو الفتح وحسين أبو الفتح، وكان الأول خارج البلاد أما الثانى فقد صدر الحكم بسجنه 15 عاما مع إيقاف التنفيذ، أما أبوالخير نجيب فقد صدر ضده حكما بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة والتجريد من شرف المواطنة، لأنه عمد إلى الاتصال بطوائف العمال والطلبة وتحريضهم على التمرد والعصيان، وامتهن الصحافة ولم يلتزم دستورها، كانت الاتهامات فضفاضة وسياسية فى المقام الأول، ردا على فضحه لما جرى مع المعتقلين فى السجن الحربى.
وفى يوم 17 أبريل تخلى نجيب عن رئاسة الوزراء لجمال عبدالناصر، وفى اليوم التالى نزعت سلطات الحاكم العسكرى المنصوص عليها فى قانون الأحكام العرفية منه وخولت لعبدالناصر، ونص قرار تعيينه حاكما عسكريا على الترخيص له باتخاذ أى إجراء لازم للمحافظة على النظام والأمن فى جميع نواحى الجمهورية فوق ما نص عليه القانون.
خلال شهر أبريل جرت محاولة من بعض ضباط الجيش بالتعاون مع بعض الساسة المدنيين للإطاحة بمجلس قيادة الثورة واعتقال جمال عبدالناصر، لكن المحاولة فشلت وتمت محاكمة من قاموا بها محاكمة عسكرية، وصدر الحكم فى يونيو على قائد المحاولة الضابط أحمد المصرى بالسجن 15 عاما، وفى سبتمبر صدر الحكم على اليوزباشى مصطفى كمال صدقى و20 متهما فى محاولة انقلابية أخرى اتهم فيها أيضا عدد من الشيوعيين وبعض أعضاء الأحزاب القديمة التى تم حلها.
أما القائمقام أحمد شوقى الذى عرض على نجيب القبض على مجلس قيادة الثورة فقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة إحداث فتنة فى الجيش خلال شهر مارس، وأفرج عنه صحيا.
وتم إبعاد الضباط المؤيدين للديمقراطية عن الجيش، كما تم إبعاد خالد محيى الدين الذين كان رمزا للقوى الديمقراطية خارج البلاد فى مهام رسمية لسنوات عدة.
هكذا تم توجيه الضربات المتوالية للقوى الديمقراطية ولمعاقل النضال الوطنى والديمقراطى خلال عام 1954، وظل «الإخوان المسلمون» فى شهر عسلهم مع عبدالناصر، لكن شهر العسل لم يدم طويلا، لقد كان الصدام محتوما بين الطرفين، الأمر الذى بدأت بوادره الأولى فى الجمعة الأخيرة من أغسطس 1954.