لا أعرف كيف أصف للقارئ ما شعرت به عندما طالعت فى الصحف المصرية منذ أيام قليلة، أن جماعة من مؤيدى الرئيس السابق محمد مرسى، ساروا فى بعض الشوارع رافعين صورة أسامة بن لادن، وهاتفين باسمه.
كان شعورى حينئذ مزيجا من التوجس من شر خطير قادم، ومن الإحساس بعبثية الموقف حتى كدت أنفجر ضاحكا بصوت عالٍ: «أهناك إذن من مازال يصر على استخدام هذه الأسطورة للعبث بعقول الناس، ولتبرير أعمال شريرة لا يستطيع أن يصفها باسمها الحقيقى؟».
لقد بدأت الشك فى «مسألة» أسامة بن لادن منذ بدأ يتبنى استخدام أساليب إرهابية لاستعادة مجد الإسلام. ثم اقترن اسمه بما يجرى من حركة طالبان فى أفغانستان، والمجاهدين الإسلاميين فى باكستان، ثم حرق البرجين الشهيرين فى نيويورك وضرب وزارة الدفاع الأمريكية فى واشنطن، فى يوم 11 سبتمبر 2001 الشهير، ثم احتلال الأمريكيين للعراق فى 2003، لقد اقترن اسمه بأعمال إرهابية أخرى كثيرة، فى أماكن مختلفة من العالم، ولكنى لم أستطع أن أنسى مقالا قرأته عن بن لادن نشر فى مجلة الجارديان البريطانية الأسبوعية، فى الأيام الأولى التى بدأ فيها ترديد اسمه. جاء فى هذا المقال أن أسامة بن لادن، الذى ينتمى إلى أسرة سعودية بالغة الثراء، كان فى مطلع حياته شابا عابثا يقضى وقته فى بعض ملاهى بيروت الليلية. لم يكن لدىّ أى سبب للشك فى صدق ما جاء فى المقال (وإن كنت أشك فى إمكانية نشر مثل هذا المقال الآن فى جريدة كالجارديان أو غيرها، بعد أن اكتمل بناء أسطورة بن لادن على النحو الذى نعرفه). لم أجد دافعا للجريدة لاختراع هذا الخبر، كما وجدت محتواه معقولا للغاية: شاب وسيم بالغ الثراء ينصرف مثل آلاف غيره من الشباب فى مختلف أنحاء العالم ممن لم يهبهم الله ذكاء نادرا أو موهبة تستأثر بقلوبهم. ما وجدت صعوبة فى تصديقه هو أن مثل هذا الشاب يمكن أن يغير مجرى حياته فجأة ليتجه إلى ممارسة أعمال إرهابية من أجل استعادة مجد الإسلام. فهذه البداية العاتبة لا يتبعها عادة الاستغراق فى التعبد، أو فى أعمال روحية أو إرهابية. والأعمال الإرهابية على أى حال لا تؤدى بطبعها إلى تحقيق مجد أى دين من الأديان، فضلا على أن نوع النفسية التى يتطلبها العمل الإرهابى ليست بالمرة هى نفسية الشخص الورع الغيور على دينه. بعبارة أخرى: الذى يمارس الإرهاب ظنا منه أنه يخدم الدين لابد أن يكون إما ناقصا عقليا بدرجة خطيرة أو مأجورا.
لم استطع إذن أن استسيغ ما أخذ يتوالى على أسماعنا من أعمال تنسب إلى بن لادن، وتجمع بين الإرهاب والعمل لخدمة الإسلام، بل بدت لى بعض هذه الأخبار أقرب إلى إثارة الضحك والسخرية منها إلى أخبار تؤخذ مأخذ الجد. من ذلك ما رأيناه أو سمعناه من حديث مسجل بصوت منسوب إلى بن لادن، وأذاعته قناة الجزيرة القطرية، ويعترف فيه بأنه وراء تفجيرات نيويورك وواشنطن فى سبتمبر 2001، ويتوعد الأمريكيين جميعا بالويل والثبور. كانت صورة بن لادن تظهر أثناء إلقاء الخطاب لتأكيد صحة الخبر، ولكنى تعجبت من أن هيئة المخابرات الأمريكية لم تستطع تعقب الشخص الذى جلب شريط الخطاب المسجل إلى قناة الجزيرة فى الدوحة (وقطر على أى حال، دولة صديقة ووفية للولايات المتحدة)، حتى تتمكن من معرفة المكان الذى يختفى فيه الرجل، ومن ثم الذهاب للقبض عليه وتخليص العالم كله من شروره.
استمرت هذه المسرحية العبثية حتى انتهت نهاية درامية، بالصوت والصورة، لا يمكن أن أنساها. فقد تداولت وسائل الإعلام فى العالم كله صورة فريدة من نوعها، منذ بضعة شهور، تظهر فيها وزيرة الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت (هيلارى كلينتون) وقد جلس إلى جانبها بعض العسكريين والسياسيين الأمريكيين، وهم يتابعون باهتمام شديد ما يجرى على شاشة التليفزيون الموضوع أمامهم، من عملية مهاجمة والقبض على أسامة بن لادن فى باكستان، (وفى منزل يقع مباشرة فى مواجهة مقر المخابرات الباكستانية). وقد تم القبض عليه فى حجرة نومه، وحوله (فيما أذكر) بعض نسائه. ثم أخطرنا كلنا بالنبأ السعيد، بأنه تم قتل الرجل الشرير وإلقاء جثته فى البحر. لقد تتابعت فى ذهنى وقتئذ بعض الأفكار والمشاعر، منها الشعور بالعطف على السيدة هيلارى كلينتون التى انتهى بها المآل، بعد تاريخ سياسى حافل، إلى أن تجلس لتمثيل هذا الدور الدرامى (سواء كانت تصدقه أو لا تصدقه)، ومنها أيضا التساؤل عما جعل المسئولين عن هذه التمثيلية يشعرون بضرورة التخلص من جثة بن لادن إلى الأبد على هذا النحو، وعما إذا كان من مستلزمات الأسطورة التى خلقت من العدم أن تنتهى أيضا إلى العدم.
لسبب أو آخر إذن (قد نكتشفه بعد سنوات كثيرة، ولكننا قد لا نكتشفه أبدا كما أننا لم نكتشف حتى الآن من الذى قتل الرئيس الأمريكى جون كينيدى فى 1963)، كان من المفيد لمخترعى أسطورة بن لادن وضع حد لها. ولكن لسبب أو آخر أيضا بدا من المفيد أن تسير مظاهرة فى القاهرة منذ أيام لترفع صورة بن لادن وتردد اسمه. كما بدا من المفيد أيضا العودة إلى ترديد كلمة «الإرهاب» فى الإعلام المصرى والأمريكى، وبوتيرة أسرع مما كان يتم ترديدها فى الماضى القريب. وقد لاحظت أيضا أنه قبل أيام قليلة من هذه المظاهرة، صدر عن تونى بلير، رئيس الوزراء الأسبق فى بريطانيا، تصريح شديد اللهجة، يحذر فيه من الخطورة التى يمثلها الإرهاب فى العالم وضرورة التصدى له بكل قوة. وتونى بلير رجل لعب ولا يزال يلعب دورا مشبوها جدا، من الناحية الأخلاقية، فى السياسة الدولية، منذ جر بريطانيا إلى غزو العراق إلى جانب الولايات المتحدة، رغم معارضة الشعب البريطانى كله لهذا الغزو. وكنت قد لاحظت أيضا منذ فترة أن ملامح تونى بلير فى السنوات الأخيرة بدأت تكتسب نفس النوع من الملامح التى تكسو الآن وجه هيلارى كلينتون، والتى تدل على الانفصام التام بين ما يصدر من الفم وما يدور فى الذهن.
هذا هو بعض ما جعلنى أتوجس شرا من هذا الخبر الجديد عن قيام مظاهرة ترفع صورة أسامة بن لادن فى القاهرة، وتهتف باسمه.