منذ فترة قصيرة بدأت فى قراءة كتاب للكاتب الأمريكى (Tim Urban) بعنوان «ما هى مشكلتنا؟ كتاب تنمية ذاتية للمجتمعات» وهو كتاب ضخم يقع فى أكثر من 700 صفحة ومتوفر إلكترونيا فقط، لا تجعل عنوان الكتاب يخدعك فهو ليس كتابا عن التنمية الذاتية لكنه كتاب يبحث التطور التكنولوجى وأثره على المجتمع الإنسانى سواء بالسلب أو الإيجاب. وهذه نقطة انطلاق مناسبة لمقال اليوم.
التكنولوجيا تتطور بوتيرة متزايدة وهذه الوتيرة لن تنقص، بل ستزداد حتى فى أوقات الحروب، الفرق فى التقدم التكنولوجى بين النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين أقل بكثير من الفارق بين النصف الثانى من القرن العشرين وما نحن فيه الآن. يكفى أن أذكر أنه حتى السنة التى حصلت فيها على درجة الدكتوراه فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لم يكن هناك سكايب أو زووم أو يوتيوب ولم تكن أغلب منصات التواصل التى نعرفها الآن قد ظهرت وكانت جوجل فى بداية ظهورها على الساحة. مثال آخر: فى سنة 1997 صنعت شركة أى بى إم جهاز كمبيوتر عملاق فائق السرعة يسمى (Deep Blue) مصمم خصيصا للعب الشطرنج وكان أول كمبيوتر يفوز على بطل العالم فى الشطرنج آنذاك جارى كاسباروف. هذا الجهاز كان كبير الحجم (بحجم دولابين كبيرين) وتكلف ملايين الدولارات. منذ نحو عشر سنوات أصبح أى برنامج شطرنج مجانى تضعه على هاتفك المحمول قادرا على هزيمة بطل العالم الحالى فى الشطرنج وبسهولة. من المتوقع أن التقدم التكنولوجى سيتسارع أكثر وأكثر فى المستقبل حتى أننا سنقيسه بالشهور وليس السنوات. السبب فى هذا التسارع أن التكنولوجيا نفسها تعطى أدوات تساعد على الاكتشافات العلمية والتصنيع، فكلما تقدمت التكنولوجيا تقدمت تلك الأدوات وبالتالى تسرع من وتيرة التقدم العلمى والتكنولوجى مما ينتج أدوات أكثر تطورا تسرع الوتيرة أكثر فأكثر.
كل هذا يساعد على رفاهية الإنسان وسهولة حياته على هذه الأرض من وجود علاج لأمراض كانت مستعصية وسهولة التنقل وسهولة نقل المعلومات والذكاء الاصطناعى الذى تغلغل فى جميع مناحى الحياة إلخ. كل ذلك جعل الإنسان يشعر بالقوة والسيطرة. امتلاك التكنولوجيا يحتاج إلى أسرار العلم والتصنيع ويحتاج إلى مواد أولية للتصنيع وهذه المواد الأولية موجودة فى أماكن محدودة فى هذا العالم. أيضا التكنولوجيا المتقدمة تحتاج إلى مصادر طاقة كثيرة ويزداد الاحتياج كلما زاد التقدم. مصادر الطاقة أيضا ليست موزعة بالتساوى على خريطة العالم. كل تلك العوامل أدت إلى الحروب بين الدول والتشاحن بين الأفراد. أى إن التقدم العلمى يزداد وحكمة البشر تقل.
الأمثلة من التاريخ الحديث التى تدل على تطور غير مسبوق للتكنولوجيا مصاحبا له تدهور فى «إنسانية» الإنسان وحكمته لا تعد ولا تحصى. على سبيل المثال هناك حربان عالميتان قتلتا عدة ملايين من البشر ودمرتا الكثير من البنية التحتية فى دول عدة، هذه القوة التدميرية هى نتيجة التطور التكنولوجى الكبير، الحرب العالمية الأولى هى حرب الكيمياء (المتفجرات والقنابل إلخ) والحرب العالمية الثانية هى حرب الفيزياء (السلاح النووى)، ونتوقع أن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرب الأمن السيبرانى وحربا ثقافية بين الدول باستخدام القومة الناعمة والتى ستعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا. الاحتباس الحرارى نتيجة التلوث بدأت تظهر آثاره المدمرة فى الكثير من بقاع المعمورة ومن المتوقع أن تزداد تلك الآثار بمعدل متسارع ما لم يتحد العالم لمحاربة ذلك. الحروب البيولوجية والفيروسية موجودة لكن تضعها الدول فى طى الكتمان، ولكن بين الحين والآخر نرى آثارها التى تكون إما نتيجة خطأ أو مقصودة. أى حرب ستظهر الآن أو فى المستقبل ستكون أكثر تدميرا من سابقتها لأن التقدم التكنولوجى لا ولن يتوقف. وهنا من المهم أن نقول إن أغلب الأسرار التكنولوجية التى تخفيها الدول (والمتقدمة منها على وجه الخصوص) هى أسرار عن استخدام التكنولوجيا وليست عن التكنولوجيا نفسها، أى إن الجامعات الكبيرة قد يكون بها معامل أبحاث تنتج تكنولوجيا متقدمة للغاية وأبحاثها منشورة فى المجلات العلمية ومتاحة للجميع، لكن كيفية استخدام تلك التكنولوجيا فى الحروب وكيفية تركيب التكنولوجيات مع بعضها البعض هو السر وهو ما تخفيه الدول. مثال ذلك أن أبحاث الانشطار والاندماج النووى معروفة ومنشورة، لكن استخدامها فى صنع القنبلة الذرية (وهو ما يعرف بمشروع مانهاتن) كان هو السر الذى لم يكشف عنه الستار إلا بعد سنين عديدة.
ماذا عسانا أن نفعل إزاء ذلك؟ أعتقد أن هذا سؤال صعب جدا ويحتاج جلسات نقاش كثيرة، ولكن أعتقد أن النقطة الأساسية هى أننا يجب أن نفكر فى أولوياتنا فى هذا العالم: هل نريد التقدم التكنولوجى بأى ثمن؟ أم ماذا؟