مطلع الثمانينيات من القرن الماضى خضت امتحانات الثانوية العامة، التى لم تكن سوى عاما دراسيا فاصلا فى مراحل التعليم المختلفة مثلها مثل المرحلة الابتدائية، أو الإعدادية، وقتها لم تكن آفة الدروس الخصوصية قد استشرت وتشعبت على نحو ما جرت به الأيام، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من وضع يعرفه القاصى والدانى.
طوال العام الدراسى لم أحصل على درس خصوصى واحد، وكذلك غالبية زملائى فى إحدى مدارس المناطق النائية بالإسكندرية، التى لم تكن تعرف سوى المدرسين حديثى التخرج أو أولئك المشاغبين من المدرسين المغضوب عليهم من الإدارات التعليمية القابعة وسط المدينة قرب منازلهم وعائلاتهم.
لم تتكلف أسرنا قرشا أحمر فى درس خصوصى ولا عرفت المصاريف الباهظة التى تتكلفها الأسر مجبرة هذه الأيام، بعد أن تحولت الثانوية العامة إلى «بعبع» يصيب الآباء والأمهات بالأرق ليلا، والرضوخ نهارا لأباطرة مراكز الدروس الخصوصية، الذين حولوا العملية التعليمية إلى سلعة تباع وتشترى، وبين البائع والمشترى ضياع مستقبل جيل، وربما أجيال من الطلاب الذين نعول عليهم فى صنع نهضة مفقودة.
يقول المثل: ليس من سمع كمن رأى، فقد ظللت لسنوات أتعامل مع قضية الثانوية العامة باعتبارها حدثا موسميا يمر على الأسر، كما مرت على أسرتى، خفيفا لطيفا، مجرد تتويج لمرحلة دراسة ينطلق منها الطلاب إلى عالم الدراسة الرحب فى الجامعات، لكن فى السنوات الأخيرة بدأت ألتفت إلى المأساة الحقيقية التى تمر بها البيوت المصرية عندما تأتى أرجلهم فى «خية» المرحلة الثانوية.
هذا العام تجسدت المأساة بلحمها وشحمها، فقد بت من الآباء الذين يقعون ضحية نظام تعليمى كلمة «فاشل» أقل ما يمكن استخدامها فى وصفه، فأنت قبل أن يدخل ابنك الثانوية العامة بخمسة أشهر على الأقل مطالب باللف والدوران فى محيط سكنك للبحث عن الأشهر من مراكز الدروس الخصوصية للحجز فى كل مادة علمية على حدة، ولنيل المراد من رب العباد عليك المسارعة منذ الصباح الباكر وإلا فاتك عبقرى الرياضيات، وسيبويه اللغة العربية، وشكسبير الانجليزية، ومولانا مدرس التربية الدينية.
وإذا ما انتهيت من «السنتر»، وجب عليك تحويل البيت إلى مقر دائم للمدرسين المساعدين الذين يتولون سد الفجوات التى تحدث لشرود ابنك، أو غيابه لسبب قهرى عن الدرس اليومى، ولا تحدثنى عن دور المدرسة الخاصة التى حصلت على حصتها من لحم الآباء، فقد نفضت يديها من أى التزام، باستثناء جمع استمارات التقدم للامتحان وتسليم أرقام الجلوس، وما بينهما «الطناش» المبين.
كل هذا ووزارة التعليم أذن من طين وأخرى من عجين، وأحيانا لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، كل ما فعله كبيرها لدى بداية العام الدراسى هو إطلاق حملة جوفاء لمحاربة مراكز الدروس الخصوصية، لم يصمد فيها أكثر من أسبوع، قبل أن يهزم بالضربة القاضية من مافيا الدروس الخصوصية أو أصحاب «السناتر» التى باتت بديلا «واقعيا» للمدارس العامة والخاصة، خاصة فى العام الأخير للثانوية العامة، ثم كانت الطامة الكبرى تسريب الامتحانات التى اضطرت معه الوزارة إلى إلغاء اختبار مادة التربية الدينية الذى تسرب قبل بدء موعد الامتحان ذاته!.
عام كامل، ليس دراسيا، ولكن زمنيا ونحن كآباء وأمهات نتقلب على جمر النار، ماديا وبدنيا، نسهر الليل أكثر من الأبناء، ونعانى القلق والرهبة من يوم الامتحانات، فهل نعيش حتى نرى البيوت المصرية وقد أفلتت من هذا البعبع اللعين؟ الناس فى انتظار بارقة أمل للقضاء على نظام تعليمى تعيس، لكن يبدو أن الأمر بات من الأحلام التى لا تتحقق.