بمجرد البحث والنقاش فى قضية السكان، يطرح على الفور جهابذة الأحاديث الدائرية العقيمة سؤالهم الأزلى عن الوضع السكانى فى الصين والهند وكل منهما تعداد سكانه يصل إلى 1.5 مليار إنسان.
وعليه فبادئ ذى بدء، يتوجب الإجابة على هؤلاء استنادا إلى حقائق الجغرافيا التى لا جدال بشأنها، فالصين مساحتها 9.5 مليون كم2 أى أكثر من تسعة أضعاف مساحة مصر، والهند مساحتها 3.3 مليون كم2 أى أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة مصر، وكلا الدولتين ليس بهما صحارى جرداء مع غناهما بالمياه والأمطار والموارد الطبيعية.
فضلا عن أن المقارنة هكذا تعد من قبيل الهزل، فليست الصين كالهند وليست الهند كمصر، وكل دولة لها ظروفها وأوضاعها وأحوالها السياسية والاقتصادية المختلفة تماما عن الأخرى.
مساحة مصر التى تبلغ المليون كم2 معظمها وبنسبة 85% منها هى صحراء شاسعة قاحلة شحيحة الأمطار منعدمة الأنهار، أى أن المساحة الحقيقية المأهولة فعليا فى مصر هى 150 ألف كم2 يعيش عليها ما يتجاوز 105 ملايين إنسان.
وليس الأمر قاصرا على ذلك، فمصر تتعرض لتحديات كبيرة وخطيرة، جزء منها يتعلق بالجانب الآخر من حقائق الجغرافيا، وهى ظواهر التصحر والنحر والتغيرات المناخية، وجزء آخر يرتبط بالتهديدات والمخاطر على مياه النيل من السد الأثيوبى حاضرا ومستقبلا وأثره على الأمن المائى المصرى.
الأمر لو اقتصر على كل ما سبق، لكان العبء يسيرا، إذ إن موقع مصر ومكانتها ومركزها ومسئولياتها تقع جميعا فى قلب مسرح السياسة الدولية بأبعادها وصراعاتها الإقليمية، حيث الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة مازالت غير مستقرة ولاسيما جنوبا وغربا.
• • •
والسؤال الذى يطرح نفسه، هل تتناسب حمولة السفينة مع قدرتها وطاقتها؟ وبمعنى آخر هل تتناسب الكتلة السكانية المصرية مع طاقات وموارد الوطن؟ الإجابة المباشرة الصحيحة هى لا، وكافة التقارير والمؤشرات والأبحاث فى هذا المجال عن مصر تؤكد أننا أمام مشكلة سكانية حقيقية ضاغطة بقوة على كل شىء.
وبرغم وضع الاستراتيجية السكانية لمصر عام 2015، إلا أنه يبدو أن معظم الشعب المصرى يمضى بشأن السكان فى اتجاه آخر إن لم يكن الاتجاه المعاكس، فمنذ شهرين تماما سجلت الساعة السكانية فى مصر، وصول عدد السكان داخل البلاد إلى 104 ملايين و750 ألف نسمة، بزيادة قدرها 750 ألف نسمة خلال 180 يوما منذ أكتوبر 2022 مع توقع زيادة مثيلة حتى أكتوبر 2023.
وواضح أن المسألة لو مضت على ذلك النهج، ستصل بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه، والدولة المصرية تدرك ذلك، والحكومة التى تبذل قصارى جهدها تعمل كما لم يسبق لحكومة مثلها أن عملت على كل الأصعدة من التنمية والتطوير، لكن الواضح أن الغالبية العظمى من الأسر المصرية لا تدرك ذلك ولا تفهمه، وترى الحياة من منظور آخر تماما.
موضوع السكان هو إحدى المسائل التى تحولت عاما بعد عام إلى قضية مزمنة، بل وقضية خطيرة بكل أبعادها وتأثيراتها، ولا بد من معالجة جديدة لها، حتى وإن اقتضى الأمر قرارات سيادية للدولة، وإيضاحات وإرشادات من الأزهر الشريف والكنيسة، إسهاما منهما فى قضايا الوطن.
هل يراجع الأزهر الشريف قرار الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء عام 1396هـ الذى جاء فيه: أنه نظرا لأن الشريعة الإسلامية، تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى، ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله (ص) ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية، التى فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التى ارتضاها الله تعالى لعباده؛ لذلك فإن المجمع الفقهى الإسلامى يقرر بالإجماع: أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا.
هل يراجع الأزهر الشريف قراره بمنظور جديد يعتبر الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة التى يمر بها العالم بأسره، وتمر بها مصر؟
ما قيمة الاستراتيجية القومية للسكان؟ ومعظم الشعب المصرى يستند إلى حديث روى عن رسول الله (ص) أنه قال: «تزوجوا الودود الولود؛ فإنى مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». وقوله (ص): «تناكحوا تناسلوا فإنى مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة».
وتناسى هؤلاء وتجاهلوا قول رسول الله (ص) فى حديث شريف آخر: «توشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: «ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ»؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله فى قلوبكم الوَهَن».
• • •
قضية السكان المزمنة، ذات أبعاد خطيرة دون مبالغة، إذ هل يعقل أن يزيد عدد سكان مصر فى الـ 20 عاما الأخيرة بما يقارب 40 مليون نسمة، وهو رقم مرعب يعادل سكان عدة دول مجتمعة، بكل ما يتطلبه هذا العدد الهائل من لوازم المعيشة من ماء ومأكل وملبس ومرافق وخدمات وتعليم وعلاج.
كم مواطن يعرف أن مصر هى أكبر مستورد قمح فى العالم؟ كم مواطن يستوعب أن الأزمة الروسية الأوكرانية وضعت العالم فى أزمة غذاء حقيقية؟ كم مواطن يدرك حجم الجهد السياسى والاقتصادى الذى بذل لتوفير الغذاء فى تلك الظروف الطاحنة فى العالم؟ كم مواطن يعرف كم تدفع مصر للاستيراد فى بند الغذاء فقط؟ كم مواطن يعرف أن هناك الآن أبطالا يقفون تحت الشمس والحر الهجير فى الصحراء لاستصلاح الأرض وإعمارها وزراعتها حتى ننتج غذاءنا بنفسنا.
فى الوقت الذى تصارع فيه بلادنا وتقاتل على مختلف الأصعدة، تدور بالتوازى معارك جانبية أخرى بين معظم الشعب المصرى عمن ينجب أكثر، ومن يعدد الزوجات وينجب من هذه وتلك، ومن يواصل الإنجاب دون حساب حتى يأتى بالولد، ومن ينجب للعزوة والجاه والعدد، ومن ينجب المزيد من الأطفال كى يعيلوه وينفقوا عليه بجهدهم الضعيف حتى لو على حساب طفولتهم البريئة.
ليس كل ذلك وحسب، فسفينة الوطن زادت حمولتها من السكان، على أثر نزوح ملايين اللاجئين من البلدان الشقيقة التى تعرضت للأزمات، فوجدوا فى مصر الملاذ الآمن لهم، واليوم يتجاوز عددهم الثمانية ملايين إنسان تحتضنهم مصر، ألا يتطلب الأمر إعادة تقييم ومراجعة.
القضية السكانية تزداد وطأة على الوطن يوما بعد يوم، ومصر الكثرة الهائلة للسكان شغلها الشاغل يختلف تماما عن مصر جودة السكان والمستقبل وبناء الإنسان.