لستُ بالتأكيد من هؤلاء الأشخاص المهووسين بالنظام والترتيب المثالي للأشياء، فهذا شرف لا أدّعيه وأزيد فأقول إنه شرف لا يناسب طبيعتي، فأنا أشعر أن بعض الفوضى يكون مطلوبًا لكي نحس بنبض الأشياء وإنسانية البشر. ولذلك فإن شخصية مثل شخصية مارتين التي تقمّصها الممثّل باتريك بيرجن في الفيلم الأمريكي "النوم مع العدو" كانت تنفّرني منه بل وتخيفني، فهو رجل لا يرتاح إلا إن كانت عُلب البهارات في المطبخ مرتّبة بطريقة معيّنة لا تتغيّر، ولا يقبَل أبدًا أن يختل ترتيبه الخاص لمناشف الحمام من الأقصر للأوسط للأطول. وتعاطفتُ تمامًا مع شخصية سارة أو زوجته التي أدّتها باقتدار الممثّلة الرائعة چوليا روبرتس، حتى إن هي هربَت من زوجها وتحرّرت من سطوته واستأجرَت شقتها الخاصة-راحت تلخبط ترتيب العلب والمناشف وكل الأشياء. وفي لحظة معينة تمنيّتُ لو أني أستطيع أن أكون إلى جوارها وأساعدها فيما تفعل لتنجو بروحها وتشعر أنها كائن حيّ. إذن أنا لستُ من طراز هؤلاء الأشخاص المنظمين جدًا، ولا أستطيع أن أكون مثلهم ولا أحب أن أكون كذلك. لكن في الوقت نفسه أعتبر أن هناك منطقًا للفوضى، بمعنى أنه في وسط الفوضى لابد أن يكون هناك قدرٌ قليل من النظام حتى نستطيع أن نتعرّف على أماكن الأشياء وأن نصل إليها حين نحتاجها دون صعوبة، وكي لا نشعر بالغربة عمّا ألفناه واعتدنا عليه.
• • •
بعد إجراء جراحتي الكبيرة الأولى، وحين كنت ألتقط أنفاسي بفضل جرعات المسكّن القوية التي كانت تقلّل شعوري بالألم، كنت أنتهز الفرصة لأسأل مَن حولي من أفراد أسرتي عن أمور البيت وكيف هي تسير في غيابي فكان يأتيني دائمًا الجواب التالي: ما تشغليش بالك بالحاجات دي خليكِ في نفسك. وعندما كنت أصّر على أن أشغل بالي بالحاجات دي كان يأتيني الرد: كله تمام، وبناءً عليه شعرتُ بالاطمئنان وكان هذا الشعور مضلّلًا. المهم إنني ركنت إلى هذه الطمأنة المزيّفة على أن الأمور في البيت تسير كالساعة وأن كله تمام التمام، ومن هنا كانت المفاجأة كبيرة عندما عدتُ إلى البيت وقمت بأول زيارة إلى المطبخ. كانت الطاقة محدودة في ذلك الوقت، وكان اللهاث واضطراب الأنفاس يأتي مصاحبًا للخطوات القليلة والقصيرة التي أخطوها، وتصوّرت أن زيارتي التفقدّية للمطبخ ستكون سريعة بناءً على كلام الأهل في المستشفى، وكنت مخطئة. فتحتُ الثلاجة فإذا بالمشهد العجيب التالي.. زجاجات المياه الصغيرة والمتوسطة والكبيرة تملأ الباب والأرفف وكل مكان، سقطَت إحداها على قدمي فكانت موجعة، وتدحرجَت أخرى لكن حال دون سقوطها زحام الزجاجات المصطّفة إلى جانبها. ما هذا؟ كنّا في شهر فبراير أي في عزّ الشتاء بما لا يبرّر الطلب الشديد على المياه ناهيك بأن تكون هذه المياه مثلّجة، فهل يكون سبب هذه الثلاجة المائية هو خبر انتشر مثلًا عن ارتفاع وشيك في سعر زجاجات المياه؟ وبافتراض صحة هذا التخمين لماذا جرى تكديس عشرات الزجاجات في الثلاجة؟ بعد زوال الشعور بالدهشة بدأتُ أقلق من أن العبث ربما يكون قد امتّد إلى ما هو أهم بالنسبة لي من ذلك بكثير. وكان أول ما فكّرتُ فيه هو الجرائد التي أحتفظ بها طيلة الأسبوع ثم أقوم في نهايته بعمل ملفّات من التحقيقات والمقالات التحليلية فهذا هدف يسهل التلاعب به لمن لديه النيّة. توجّهتُ إلى غرفتي وصحّ توقّعي، لا توجد جريدة واحدة من الجرائد التي تركتها قبل دخولي المستشفى في مكانها المعتاد ولا بالطبع الأعداد الجديدة التي تراكمَت طيلة فترة غيابي عن البيت، اختفاء تام. تحوّل القلق إلى غيظ، هل هذا هو التمام الذي وُعدت بأن يكون عليه حال البيت؟ تفنّنت معاونتاي الطيبتان في إعادة ترتيب الأشياء على طريقتهما وهما على أية حال كانتا تفعلان ذلك من وقت لآخر لكن ليس بهذه الأريحية ولا بهذا التوسّع، فلا الراديو الذي أتونّس بأغانيه في مكانه، ولا الساعة المضيئة التي تظهر لي أرقامها في الليل على سقف الغرفة، ولا أدوات التجميل المرصوصة تحت المرآة ولا ولا، وجَدتُ نفسي غريبة في بيتي. كانت الملاءة المزهرة التي أهدتها لي معاونتاي مفروشة على السرير لتذكرني بنواياهما الطيبة فهدّأت نفسي قليلًا.
• • •
في الواقع يجب الاعتراف أنه كان من الصعب عليّ حصر المسئولية في جهةٍ واحدة عن حالة العبث التي تحدّثت عنها، فبعض هذا العبث كان يحتاج إلى سلطة أعلى كما في تغيير أنظمة تشغيل الأجهزة الكهربائية لتنجز مهمتها في وقت أقصر وليس على راحتها تمامًا كما يروق لي، وبالتالي كان جميع أهل البيت في مرمى الشك لا أستثني منهم أحدًا، والشك شعور غير مريح. لكن الخلاصة أن مَن يعتقد أن المرأة حتى وهي على فراش المرض تقبل أن يجور كائن مَن كان على زمامها وحيازتها ونطاق سيطرتها- يكون مخطئًا، فهذه المملكة مهما صغرت ما أن تدخلها المرأة حتى تصبح هي المكان الذي تصبغه بشخصيتها وتشكّله على ذوقها وتعدّل وتبدّل في أثاثه حسب حالتها المزاجية. واللحظة التي تفقد فيها المرأة اهتمامها بمملكتها/بيتها تكون هي نفسها اللحظة التي تفقد فيها اهتمامها بعلاقتها بشريك حياتها وارتباطها بأسرتها. استعنتُ على الشقاء بالله، وواحدة واحدة أخذتُ أعيد كل شئ إلى طبيعته التي كان عليها، وفي الخلفية راح صوت المطربة السورية "لميس كان" يدندن: أيوه انا مسيطرة حامشيكوا مسطرة!