«نصف انتصار ونصف هزيمة» حققهما السودان ــ كما تقول العديد من الأصوات السودانية ــ بعد توقيع قوى الحرية والتغيير «قحت» والمجلس العسكرى الانتقالى السبت الماضى بأديس أبابا وبرعاية المبعوث الافريقى، بالأحرف الأولى على الوثيقة الدستورية، لتنظيم شئون الحكم خلال المرحلة الانتقالية التى تستمر 39 شهرا، على أن يتم اعتمادها بشكل نهائى بعد العيد، لتنهى مرحلة من المظاهرات استمرت قرابة الـ 7 أشهر سقط خلالها مئات القتلى والجرحى.
الوثيقة الدستورية لم تصل لسقف الأهداف التى كانت ترفعها الثورة السودانية ضد نظام عمر البشير، لكنها أيضا حققت مكاسب مهمة ربما يأتى فى مقدمتها الاتفاق على بناء نظام حكم برلمانى بصلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية ورئيس الوزراء المقبل، وإعطاء «قحت» الحق فى اختيار 67 % من المرشحين للبرلمان، على ان تختار بقية قوى الثورة غير المشاركة فى اعلان الحرية والتغيير النسبة الباقية، بالإضافة إلى محاسبة رموز النظام السابق على إساءة استخدام السلطة والفساد المالى وتصفية أجهزة الدولة العميقة من العناصر الموالية له.
كما أقرت الوثيقة كيفية إعادة تنظيم القوات المسلحة، ودمج قوات الدعم السريع ــ المتهمة بارتكاب مجازر ضد المتظاهرين فى نفس الوقت الذى أحبطت فيه المحاولة الانقلابية الفاشلة لاستعادة نظام البشير ــ فى القوات النظامية، على أن يقتصر دور جهاز المخابرات فى جمع المعلومات وتقديمها لسلطات العدالة.
لكن معارضى الوثيقة من القوى المشاركة فى الثورة وعلى رأسها الجبهة الثورية التى تضم الحركات المسلحة فى دارفور وكردفان والنيل الأبيض وممثلين عن قوى سياسة وحقوقية، شكت من تهميش «قحت» لها خلال المفاوضات مع المجلس العسكرى، وأن مطالبها لم توضع فى الحسبان، كما أن هناك تخوفات من اندلاع خلافات حول حصتها من نسبة الـ 33 % من أعضاء البرلمان، إضافة إلى أن بعض العناصر المحسوبة عليها كانت ترفض أصلا التفاوض مع المجلس العسكرى، وهو نفس الموقف الذى اتخذه الحزب الشيوعى السودانى الذى قرر مبكرا الانتقال إلى صفوف المعارضة للحكومة الانتقالية، على اعتبار أن الثورة السودانية لم تحقق أهدافها.
الثابت حتى الآن أن التوقيع على الوثيقة الدستورية كان نتاج ضغوط سياسية يعانى منها الطرفان الموقعان عليها، وليس على قناعات سياسية راسخة لديهما، وهو ما يثير المخاوف من عودة العنف من جديد، فالمجلس كان يواجه غضبا شعبيا عارما بسبب مجزرة مدينة الأبيض التى راح ضحيتها متظاهرون سلميون، فى حين تخشى «قحت» من تراجع المد الثورى، أو تفاقم الخلافات بين قوى الثورة لتعود الأوضاع كما كانت عليه، أو على الأقل يضعف موقفها التفاوضى.
أيا كان الحال فسوف تحدد مجريات الأمور خلال المرحلة الانتقالية ماذا سوف يحدث فى السودان، ومدى احترام القوى الموقعة على الاتفاق، أو حتى المعارضة له على حل الخلافات بطريقة ديمقراطية، وقبل ذلك كله قدرة الحكومة الانتقالية ــ المقرر أن يشكلها خبير التنمية عبدالله حمدوك ــ على حل الأزمات الاقتصادية الكارثية التى يواجهها السودانيون، فأى فشل على هذا الصعيد سوف يعيد التذمر من جديد للبلاد، وهى الفرصة التى ينتظرها الكثير من القوى داخل السودان وخارجه، لكى تهدم المعبد على رءوس الجميع، بانقلاب عسكرى تعود عليه السودان عقب كل ثوراته الشعبية منذ الاستقلال.
الشعب السودانى يقدم بثورته السلمية نموذجا رائدا على الساحة الإفريقية والعربية فى الاطاحة بنظام حكم عقائدى معاد للحرية والعدالة وحقوق الإنسان، لكنه مطالب أيضا بأن يسقط ثقافة سياسية اعتمدت على الطائفية فى الحكم، وعلى محاصصة انتخابية، وقبل ذلك كله أن يحدد هويته القومية، أو على الأقل يجد آلية ديمقراطية لحل الاشكاليات المثارة حول «إفريقانية» السودان و«عروبته»، أو كما يقول مثقفون سودانيون بين «الغابة» التى تمثل البعد الافريقى و«الصحراء» التى تمثل البعد العروبى، لأن حل هذه الاشكالية هو دعامة السودان الموحد، وأمل عودة الجنوب إلى الشمال فى دولة واحدة.