حدث عمره 300 ألف عام من الخوف - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:20 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدث عمره 300 ألف عام من الخوف

نشر فى : الثلاثاء 6 ديسمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 6 ديسمبر 2022 - 8:10 م
قبل سنوات طويلة نبهنى الكاتب الكبير محمد المخزنجى لكتاب مهم عنوانه الثقافتان للمؤلف الروائى البريطانى سى بى سنو وكنا فى ندوة بالكويت تساءل حضورها عن غياب الثقافة العلمية عن مجتمع القراءة العربى، وحين بحثت عن الكتاب وجدت له أكثر من ترجمة من بينها ترجمة قدمها الراحل مصطفى إبراهيم فهمى وصدرت عن المركز القومى للترجمة وهناك ترجمة اخرى صدرت عن دار المدى والكتاب المقصود بدأ كمحاضرة قدمها سى بى سنو فى العام ١٩٥٩ ثم طورها لتأخذ شكل كتاب يؤرخ من خلاله لتطور الحضارة الغربية ولكن من خلال نسيج سردى مبتكر يرمم الفجوة بين لغة العلم ولغة الأدب، فقد لاحظ مؤلفه أن قراء الأدب ليس لديهم جلد القراءة حول نظريات العلم وتاريخه، ووجد أن العارفين بقوانين الديناميكا ليست لدى أغلبهم أى معرفة بأدب شكسبير ومن ثم حاول سنو التفكير فى الجمع بين الفريقين حول مائدة واحدة ونجح فى ذلك إلى حد كبير حتى أن صحيفة التايمز العريقة أدرجت كتابه فى العام ٢٠٠٨ بين أهم ١٠٠ كتاب أثرت على الخطاب الغربى العام منذ الحرب العالمية الثانية.
ووفقا لويكيبيديا فقد أدانت محاضرة سنو النظام التعليمى البريطانى لأنه كافأ العلوم الانسانية عبر تاريخه على حساب التعليم العلمى والعلوم التطبيقية على الرغم من أن هذه العلوم كانت حاسمة للغاية فى التعامل مع نتائج الحرب العالمية الثانية ونتيجة لهذا النظام التعليمى افتقرت النخب البريطانية لإعداد علمى جيد يساعدها فى إدارة واقع ما بعد الحرب وعلى النقيض من ذلك كما قال سنو فإن التعليم الألمانى والأمريكى معه سعيا لتقديم نظم تعليمية أفضل تجمع على قدم المساواة بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية مما أتاح للبلدين المزيد من الفرص لبناء نخب مؤهلة للتعامل مع الثقافتين العلمية والأدبية ومن جديد ذكرنى النجاح الكبير الذى حظى به كتاب (300 ألف عام من الخوف) للدبلوماسى الصديق جمال أبو الحسن بكتاب سنو وبضرورة الحاجة لمؤلفات كثيرة من هذا النوع تبنى جسرا بين الثقافتين.
وأحسب ان الكتاب حقق هذا الهدف بجدارة فما أن أنهيت قراءة المخطوط حتى هتفت مقلدا أرخميدس: (وجدتها)،
فقد شرفنى الصديق الغالى بقراءة المخطوط قبل ان يدفع به للدار المصرية اللبنانية التى غامرت مشكورة بنشره فى توقيت صعب وفِى طبعتين متتاليتين صدرتا فى أقل من أربعين يوما وهو رقم قياسى بالنسبة لكتاب من هذا النوع، يخالف اتجاهات القراءة فى مصر والتى كادت تنحصر فى الرواية وأدب الجريمة وكتب السيرة الذاتية أو السرديات التاريخية التى تُلِّح على صور النوستالجيا.
وزاد من اسباب سعادتى اننى راهنت المؤلف على نجاح الكتاب ووصفته بـ«الكتاب المغامر» وقلت انه سيغير من خريطة النشر العربى خلال السنوات المقبلة ويفتح بابا لتلقى مؤلفات تعتنى بفلسفة العلم وتاريخه، وتشجع الناشرين على رسم مسار جديد يلبى حاجة القراء الذين كشف عنهم نجاحه.
يتأمل الكتاب الممتع المسيرة الطويلة التى قطعتها البشرية لتبلغ ما بلغته من تقدم علمى مبهر، الا أن هذا التقدم الذى لا شك فيه وجد نفسه فى مواجهة مع لغز (كورونا) وعجز لفترة عن التعامل معه مما أعاد البشرية كلها إلى المربع صفر، وأظهر عجزها التام عن تفادى مأزق الخوف وهو ذاته المأزق الذى واجهه الإنسان الأول واستمر معنا كورثة لهذا الخوف.
بدأ المؤلف التفكير فى الكتاب من رغبة أبوية فى طمأنة ابنته التى لم تكن قد بلغت عامها الرابع عشر حين أطلت الجائحة وأقلقها الخوف منها وبدأت فى صياغة أسئلتها عن صراع البشرية مع فكرة الفناء، وعبر بريدها الإلكترونى تلقت من الأب إجابات حول ما يشغلها، ومثلت رسائله حلا سحريا وتقنيا مكنه من بناء سردية جديدة عن تاريخ البشرية والتحدى الذى واجهته لتفادى خوفها.
دخل المؤلف اللعبة وهو على بينة بكتب كثيرة سبقته وحاولت السير فى الطريق نفسه وأبرزها كتاب (العاقل أو تاريخ مختصر للجنس البشرى من وجهة نظر أنثروبولوجية) للمؤلف الإسرائيلى يوفال نوح هرارى وهو أحد أشهر الكتب فى السنوات الاخيرة، لكن أبوالحسن نجح فى النظر لفكرة الخوف كمفتاح لتفسير طبيعة الرحلة وصاغ حولها فرضياته اللامعة.
وأجمل ما فى كتابه أنه يكشف عن ثقافة موسوعية نادرة، وسعة اطلاع كبيرة تجمع بين علوم شتى منها الفيزياء والتاريخ الطبيعى إلى جانب الفلسفة وعلم التاريخ بشتى مدارس تفسيره وأبهرتنى قدرته على الانتقال بالتفسيرات من مدرسة إلى أخرى حتى أنه من الصعب وضعه فى إطار مدرسة بعينها، على الرغم من انحيازه الاصيل للمدرسة العقلانية ثم المدرسة التاريخانية التى تدرس الأحداث كما هى دون إخضاعها للمثالية الاخلاقية.
ولا يتجاهل الكتاب الآفاق المعرفية التى أوجدتها البنيوية ويسعى فى أحيان كثيرة لتفسير التاريخ وفقا لأطر المدرسة الحولية التى انطلقت من نقد نظرية المؤرخ الشهير أرنولد توينبى حول التحدى والاستجابة دون اية اضطرابات منهجية ويبدو كذلك شديد الإعجاب بما أوجده مؤرخ كبير مثل فرنان بروديل ويبدو مثله يراوده قلق كبير بشأن الحوار المقطوع بين التاريخ والعلوم الدقيقة أو العلوم الصرفة مثل الفيزياء والرياضيات والأمل فى نسف الأفكار المتعلقة بالزمان والمكان لصياغة منعطف جديد على الكتابة التاريخية ان تبلغه.
وفِى ظنى أن ابو الحسن اقرب لمؤرخى مدرسة الحوليات الساعين لبلوغ مثل هذا الهدف والجمع بين ميادين الفلسفة والاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة العلم إلى جانب الاقتصاد والسياسة فضلا عن الانفتاح على مصادر معرفية معاصرة مصدرها صفحات اليوتيوب والبودكاست وكلها أدوات ساعدته على تكوين رؤى أقرب إلى الشمول.
ونحن نعرف أن اتساع المصادر قد يكون أحيانا اقرب للورطة وليس إلى ابتكار الحل، ما لم يكن صاحبه يقظا ومالكا لعقل واع يساعد على بناء نسيج معرفى متكامل قادر فى نفس الوقت على تحقيق المتعة والكتابة بأسلوب سلس متدفق.
انتهت المساحة المخصصة للمقال لكن الأمل دائما فى القارئ الذى انصف هذا الكتاب الذى اتمنى لو أتيح فى طبعة شعبية ضمن مشروع مكتبة الاسرة حال استئناف إصداراته، لان ما فيه من جهد ومعرفة لابد وأن يصل إلى الناس ويأخذهم معه إلى أرض جديدة تنتظر من يحرثها.