ــ 1 ــ
أذكر حينما هاتفنى أستاذى المرحوم الدكتور جابر عصفور، ذات مساء شتوى قارس ليؤكد علىّ ضرورة الحضور فى حفل تكريم الدكتور محمد عنانى بالمركز القومى للترجمة، بمناسبة صدور ترجمته العربية الباذخة لموسوعة «الهرمنيوطيقا» العالمية فى ثلاثة أجزاء.
ولم يكن أستاذى جابر عصفور يفوّت فرصة أو مناسبة إلا ويحدثنى باحترامٍ وافر وتقدير وإجلال وإعزاز صادق عن محمد عنانى، يقول لى بالحرف «إنه شيخ مترجمى هذا الزمان، بيت الحكمة المعاصر، امتداد العصر الذهبى للترجمة فعلا معرفيا وتنويريا زاهرا فى حضارتنا العربية الإسلامية».
وحينما أخبرته أننى لطالما بُهرت دوما بمقدمات وتعليقات وحواشى الدكتور محمد عنانى الشارحة المستفيضة، ونظراته اللغوية ونقداته الأدبية النافذة فى هذه الترجمات الغزيرة، فضلا على بروز البعد التراثى/ اللغوى المكين فى تكوينه، كان يقول لى «لا غرابة فى ذلك على الإطلاق، فمحمد عنانى كاتب مسرحى وشاعر فى الوقت نفسه، وهو ينطبق عليه ما كان يقوله الجاحظ عن المتكلمين فى زمنه التراثى البعيد من أن المتكلم لا يكون متميزا فى علم الكلام إلا إذا كان ما يعرفه من علوم الدين فى وزن ما يعرفه من علوم الفلسفة».
كان محمد عنانى يجيد من اللغة والأدب والمعرفة الإنسانية الدقيقة وزن ما يحسنه من النقد والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، ومن النظرية والتجريد بقدر البراعة فى ضرب الأمثلة ونظم الشروح وبسط أعقد المسائل والأفكار والنظريات وأصعبها، كل ذلك بصياغة عربية سلسة واضحة مبينة، كان رحمه الله لغويا وعالما وأديبا وناقدا ومبدعا كبيرا
ــ 2 ــ
هكذا كان المرحوم الأستاذ الدكتور محمد عنانى (1939ــ 2023)؛ عميد مترجمى هذا الزمان فى لغتنا العربية وثقافتنا العربية المعاصرة، أستاذ الأساتذة، وشيخ المترجمين، والمنظر المؤصل الواعى لعلم الترجمة وإشكالاتها وقضاياها، الذى رحل عنا الأسبوع الماضى عن 84 عاما؛ قضى أغلبها فى التحصيل والقراءة والتأليف والإبداع، والتدريس، وممارسة فعل الترجمة وخدمة العلم والمعرفة، تاركا إرثا معرفيّا وثقافيّا يفوق قدرة البشر، رحمة الله عليه.
كان رحمه الله أستاذا للأدب الإنجليزى بكلية الآداب بجامعة القاهرة، بل واحدا من أشهر أساتذة الجامعة العريقة عبر تاريخها كله، التلميذ الأهم والأبرع والأكثر ذكاء وألمعية بين تلاميذ رشاد رشدى فى ستينيات القرن الماضى، وأحد أهم المترجمين بالوطن العربى (إن لم يكن الأهم والأكبر والأشهر فيما أظن)، وصاحب المشروع الطموح المثير للإعجاب والدهشة معا لترجمة كلاسيكيات التراث الأدبى الإنجليزى والعالمى، فضلا على تصديه المعجز لترجمة ونقل أعمال عبقرى المسرح والدراما فى التراث الإنسانى «وليم شكسبير» إلى العربية، وقد ترك ــ رحمه الله ــ إرثا ثقافيا هائلا من الكتب المنهجية المنضبطة عن الترجمة، تعلم منها أجيال وأجيال من المترجمين.
مع كل مقدمة وافية لترجمة من ترجماته الرائعة، كنت أذهل وأنا أرى أستاذا للأدب الإنجليزى يناقش قضايا لغوية وبلاغية دقيقة فى التراث العربى، ويربط بينها وبين النظرات الحديثة ومكتسبات الثورة اللغوية التى أنجزها السويسرى «دى سوسير»، كان واسع الاطلاع وغزير المعرفة وكان أيضا أول من لفتنى إلى الكتاب القيم الذى ألّفه أستاذنا الدكتور عبدالحكيم راضى بعنوان «نظرية اللغة فى النقد العربى» والذى تحدث عنه باحترام كبير.
حينما صدرت ترجمته لموسوعة «الهرمنيوطيقا»، سالفة الذكر عن المركز القومى للترجمة، قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، اعتبرها كبار النقاد والمتخصصون والخبراء بهذا المجال المعرفى الدقيق عملا استثنائيّا بكل ما تعنيه الكلمة، وذكر الدكتور أنور مغيث المدير الأسبق للمركز القومى للترجمة؛ فى مقاله (بالأهرام) أن الدكتور عنانى تصدى وحده ــوقد تجاوز الثمانين من عمرهــ لترجمة هذا العمل فى ثلاثة مجلدات ضخام أنجز الأول منها فى ثلاثة أشهر، وأنجز المجلدين الباقيين قبل أن ينصرم العام ذاته الذى بدأ فيه الترجمة، فيا له من جهد! ويا له من إنجاز! ويا له من قيمة أصبحت أندر من الكبريت الأحمر فى هذا الزمان!
ــ 3 ــ
وقد اعتبر المرحوم جابر عصفور ــ وقد كان كما قلت مقدرا ومجلّا لعمل عنانى كله ــ ترجمة هذه الموسوعة عملا بالغ الأهمية ينبغى أن يُحتفى به كل الاحتفاء فى ثقافتنا العربية، «فمحمد عنانى ليس مترجما عاديّا، وإنما هو شيخ المترجمين العرب بلا استثناء، فهو مترجم يندر أن يوجد مثله فى ثقافتنا العربية المعاصرة، سبق له أن ترجم نصوصا مسرحية عديدة لشكسبير الذى يستكمل له حاليّا ترجمة أعماله الباقية، فضلا عن ترجمته العظيمة الرائعة لجون ميلتون «الفردوس المفقود» وغيرها من أعمال إدوارد سعيد ابتداء من «تغطية الإسلام»، إلى «صورة المثقف» و«الاستشراق». وله كتاباته المُعتَمَدة باللغة الإنجليزية، كما ترجم مجموعة من مقالات نقدية عن نجيب محفوظ، ومقالات فى الأدب المقارن، فضلا عن مختارات من شعر ما بعد الحداثة المصرى، وترجماته الأخرى إلى اللغة الإنجليزية، وله مؤلفات علمية فى الترجمة والنقد الأدبى، فضلا عن أعماله العلمية التى أهَّلته لعدد كبير من الجوائز العربية والعالمية.
ولذلك كان من الطبيعى أن يختم كل أعماله التى يفخر بها كما تفخر بها الجماعة الثقافية المصرية بما يتوج جهوده العلمية العظيمة بترجمة موسوعة «الهرمنيوطيقا»».
ــ 4 ــ
فى فنون الترجمة وحدها، فقط، قدم المرحوم عنانى ما يقرب من العشرين دراسة وكتابا إلى الثقافة العربية؛ مكتبة كاملة من المعرفة المنهجية العميقة التى تغطى نشاط الترجمة نظريا وتطبيقيا، واتجاهات ومناهج، وفى تداخلها مع العلوم والمعارف الإنسانية الأخرى.
تحية لروح الدكتور محمد عنانى المثقف والمترجم الكبير الذى قام ببناء هذه الجسور والمعابر المعرفية التى أثمرت إنجازا فكريا مهما فى تاريخنا الثقافى المعاصر. هذا رجل صاحب دور وتاريخ وعلم وعمل، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.