جريمة بورسعيد أعادت قضية إصلاح وإعادة هيكلة الشرطة فى مقدمة ما يشغل الرأى العام والبرلمان والشارع السياسى، ويجب ألا تتراجع مرة أخرى إلا وقد تم إنجازها لأنها كانت ولا تزال فى قلب الصراع الدائر فى مصر. خالد سعيد كان ضحية الشرطة التى أطلقت الشرارة الأولى، ونزول الشعب يوم عيد الشرطة لم يكن مصادفة، ودور الشرطة فى تزوير الانتخابات كان من الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة، والألتراس أصحاب الدور البارز فيها خصوم تقليديون للداخلية، ومذبحة بورسعيد وقعت فى أعقاب مرور عام على قيامها، والخطر الأكبر الذى يهدد البلد هو الانفلات الأمنى، وانقطاع السولار ثم الخبز ثم البوتاجاز غير منبت الصلة بالحالة الأمنية. باختصار فإن مستقبل مصر بأكمله مرتبط ويدور حول هذه القضية المحورية التى يجب حسمها الآن وإلا فلا أمل فى أى جهد آخر فى إصلاح سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى.
الاتفاق بين القوى السياسية وفى الرأى العام على ضرورة إصلاح جهاز الشرطة خطوة هامة ولكن يجب أن يلحقها . فالحديث عن إعادة هيكلة الشرطة منذ العام الماضى لم يتوقف، ولكنه ظل مستندا إلى مفهوم تقليدى وسطحى للغاية، وهو استبدال القيادات القديمة بأخرى تلحقها فى الأقدمية أو نقلها من مواقع ظاهرة إلى مواقع مستترة لابعادها عن الأنظار أو تغيير اسماء إدارات مكروهة إلى أخرى أكثر قبولا. الأخطر من ذلك أن يقوم بهذا الإصلاح السطحى ذات القيادات التى أدارت الجهاز لسنوات ماضية وفى إطار من السرية والتكتم ودون الإعلان عن خطة أو مستهدفات أو عما تحقق بالفعل، وبذلك صار من تسببوا فى المشكلة هم من يتولون حلها. كل هذا جعل الناس تدرك أن هذه إعادة هيكلة مقصود بها حماية المصالح القائمة لا محاربتها، وإعادة انتاج ذات النظام والأساليب والأهداف ولكن فى ثوب جديد.
ثم جاءت جريمة بورسعيد لتؤكد أن ما يقال عن إصلاح جهاز الشرطة حتى الآن وهم وخديعة كبرى. أعداد كبيرة من الشرطة منتشرة فى كل مكان ولكن لا تتدخل (عن إهمال أو عن قصد لا نعلم بعد)، وسكوت عن جيوش من البلطجية معروفة أسماؤهم وعناوينهم وقياداتهم، وإصرار على أن قانون الطوارئ لايزال مطلوبا، واستهتار بالرأى العام، وغموض فى كل شىء. ولذلك فالحل هو العودة لأصل المشكلة، وهى أن جهاز الشرطة بحاجة إلى إصلاح وتطهير وهيكلة بالمعنى الحقيقى، وعلى نحو ما عبر عنه الرأى العام والبرلمان والشارع السياسى فى الأيام القليلة الماضية، ولكن بالشروط الآتية:
أولا: ألا يترك أمر إصلاح جهاز الشرطة له ولا لوزارة الداخلية وحدهما لأن هذا أمر يخص الوطن وأمنه واستقراره ولا يمكن أن يكون محل اختصاص ذات الجهاز المطلوب إصلاحه إصلاحا جذريا. يجب أن يأخذ مجلس الشعب المبادرة فى هذا الموضوع، فهو مجلس منتخب وذو صلاحيات واسعة وعليه أن يستخدمها فى القيام بدور إيجابى وفعال فى وضع خطة الإصلاح والتطهير المنشودة وفى الإشراف على تنفيذها وفى متابعة نتائجها وفى الإعلان عنها للجمهور.
ثانيا: أن يستعين مجلس الشعب فى ذلك بما فى البلد من كفاءات وخبرات من رجال الشرطة الذين خرجوا على المعاش أو أحيلوا للتقاعد المبكر وصاروا من خبراء الأمن فى العالم العربى، وبأصحاب الآراء المختلفة من داخل جهاز الشرطة فى مختلف المواقع، ومن الجمعيات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان التى اكتسبت معرفة كبيرة به من كثرة الصدام والصراع بينهما فى السنوات الماضية، ومن خبراء القانون الجنائى والتنظيم والهيكلة فى مختلف المجالات.
ثالثا: أن نتفق على أن المقصود بإعادة الهيكلة ليس مجرد تغيير أسماء الإدارات ولا نقل القيادات، وإنما إجراء تغيير جذرى فى عقيدة الجهاز، وفى هيكله الإدارى، وفى علاقة كبار الضباط فيه بباقى أعضائه، وفى توزيع موارده، وفى أولويات عمله، وفيما يفصح عنه من معلومات للناس، وفى الأدوات التى يستخدمها.
رابعا: أن يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لعزل واتهام ومحاكمة كل من يثبت اشتراكه فى القتل والتعذيب والفساد، ثم يتم رسم خط فاصل بين هؤلاء وبين عشرات ومئات آلاف الضباط والافراد الآخرين بحيث يتم منحهم الأمان والثقة فيعلمون أن الوطن بحاجة إليهم وأنه يساندهم ويقدر جهودهم وتضحياتهم، فمن غير المعقول أن يستمر الحديث عن إصلاح الشرطة وعن خطورة الانفلات الأمنى بينما كل ضابط وكل فرد فى الشرطة يشعر أنه متهم وملاحق وأن مستقبله مهدد وأن المجتمع يخاصمه. يجب فصل الصالح عن الطالح، ويجب أن يعطى المجتمع لرجال الشرطة ممن ليسوا موضع اتهام الأمان والثقة والتقدير المادى والمعنوى لكى يتمكنوا من العطاء والتضحية فى سبيل الوطن.
ولنتذكر أن الغالبية من العاملين بالشرطة لا يزالون يقومون بواجبهم فى مواقع بعيدة وخطرة فى كل أنحاء الوطن. دعونى أذكر واحدا لأننى عرفته وخسرته فى الأيام الماضية. ففى الوقت الذى كانت مذبحة بورسعيد على وشك أن تبدأ، كان الرائد عصام التهامى ــ رئيس مباحث مركز صدفا فى جنوب أسيوط ــ يجلس فى مكتبه، يخطط ويدبر لحملة فى اليوم التالى على قرية مجاورة تعانى من الانفلات التام ومن سيطرة البلطجية وترويعهم لسكان المنطقة. لم يكن قد مضى على عصام التهامى سوى أشهر قليلة فى موقعه، وقد جاء ليحل محل رئيس المباحث السابق الذى ثار عليه أهل البلد لتقاعسه عن حمايتهم وأجبروه على ترك البلد، فتمكن فى هذه الفترة القصيرة من كسب ثقة الناس ومودتهم ومن تحقيق أكثر من صلح بين عائلات المنطقة. وفى اليوم التالى، بينما وزير الداخلية يخضع لاستجواب مجلس الشعب، كان يركب سيارته ويقود الحملة، فإذا بكمين من ذات البلطجية يتربص به ويصيبه برصاصة فى رأسه، فيقضى نحبه على الطريق بين صدفا وأسيوط أثناء محاولة الوصول به للمستشفى، ليضاف إلى سجل شهداء الشرطة الذين يسقطون كل يوم فى معركة غير متكافئة ضد البلطجة والسلاح والخطف والسرقة وضد مخاصمة المجتمع لهم. لنتذكر أن رجال الشرطة الشرفاء هم أكثر من سوف يستفيد من إصلاح جهاز الشرطة وأنهم ليسوا أعداء الوطن بل أنصاره. أما الشهيد عصام التهامى فأتمنى له الرحمة ولأسرته خالص العزاء.