«الجالسون على رصيف فيلا أبوالغار بالإسكندرية ينادونكم للجلوس معهم، حتى لا يُضطر الدكتور مفيد وفريقه إلى رفع الراية البيضاء».. بهذا النداء ختم الكاتب العظيم الراحل أسامة أنور عكاشة قبل 30 عاما جولات معركة «الراية البيضاء» التى أدارها المخرج محمد فاضل.
على وقع النداء السابق الذى تلته الفنانة فردوس عبدالحميد، جلس الدكتور مفيد أبوالغار وأعضاء فريقه من صحفيين ومثقفين وأولاد بلد أمام فيلا أبوالغار على شاطئ الإسكندرية معلنين تحدى بلدوزارات المعلمة فضة المعداوى التى حاولت بكل ما تملك من قوة وسلطان طمس الأصالة والتراث والجمال.
انتهت أحداث المسلسل الذى شد معظم المصريين نهاية ثمانينيات القرن الماضى بهذا المشهد المعلق، جيش فضة يتقدمه بلدوزر يستعد للدهس والهدم، أمام أجساد شباب آمنوا بأنهم لن ينطلقوا نحو المستقبل على انقاض التاريخ والتراث ولن تتحقق أحلامهم بإقامة دولة حديثة فى ظل انتشار القبح والتشويه.
علق عكاشة الأمل فى إنقاذ القيم ومقاومة الهجمة الشرسة على النموذج الذى مثلته فيلا أبوالغار والفريق المدافع عنها، فى رقاب أبناء البلد، وطلب منهم الانضمام للواقفين أمام الفيلا، حتى لا يضطرون إلى رفع الراية البيضاء.
دفع عكاشة الكثير من الأجيال التى تابعت جولات المسلسل إلى الانضمام إلى خندق المقاومة ضد بارونات القبح والفساد. ما زرعه عكاشة ورفاقه فى ثمانينيات القرن الماضى حصدته مصر 2011، فثورة 25 يناير لم تكن على الفقر والجوع فقط، لكنها اندلعت ضد دوائر المصالح الجديدة التى خلطت الفساد والاستبداد بالقبح.
ورغم ما جرى للثورة وأبنائها، وما جرى لفيلا أبوالغار التى جرى هدمها قبل 10 سنوات تقريبا، إلا أن أصوات أبناء عكاشة لاتزال حاضرة عندما يتعلق الأمر بمحاولة تشويه الحاضر وطمس الماضى، حسابتهم على مواقع التواصل الاجتماعى صارت منصات لمقاومة من أطلق عليهم عكاشة «تتار الزمن الأغبر»، فريق فضة المعداوى الذى يتجدد فى كل عهد ويظهر فى كل مدينة.
قبل أيام تسربت أنباء عن تنفيذ كوبرى يمر قرب كنيسة بازيليك العذراء مريم الأثرية فى حى مصر الجديدة، ما أثار استياء وغضب العديد من سكان الحى ومن المثقفين والمعنيين بالجمال والتراث.
أصحاب فكرة إقامة كوبرى جديد فى تلك المنطقة، لم يضعوا فى حسبانهم أن الكتل الخرسانية ستشوه الميدان التاريخى الذى تتوسطه الكنيسة العريقة التى تحتضن مدفن الباورن إمبان مؤسس الحى.
أعضاء مبادرة «تراث مصر الجديدة» وقعوا على بيان نهاية الأسبوع الماضى عبروا فيه عن رفضهم إقامة الكوبرى الذى لم يراعى «الخصوصية الثقافية والتاريخية للحى، فضلا عن تأثيره البيئى والأمنى السلبى على جودة الحياة فى الحى العريق».
المجلس الرعوى لكنيسة البازيليك أرسل من جهته خطابات إلى رئيس الوزراء ورئيسى مجلس النواب والشيوخ، يوضح فيه أسباب احتجاجه على إقامة كوبرى بمحازاة الكنيسة، ففضلا عن القيمة التراثية والحضارية للمبنى والمنطقة أبدى أعضاء المجلس تخوفهم من تعرض الكنيسة إلى أى هجوم إرهابى، «الكوبرى المقترح يجعلها هدف سهل».
منطقة البازيليك تم تسجيلها كمنطقة تراثية من الفئة (أ)، لذا فالمشروع الذى يجرى الحديث عنه مخالف لاشتراطات منطقة مصر الجديدة التراثية التى نشرت بقرار رئيس الوزراء فى يناير 2014، كما أنه مخالف لقانون حماية المناطق الأثرية.
حالة التهاون فى التعامل مع المناطق التراثية فى مصر بحجة حل أزمات المرور أو إقامة مبانٍ جديدة قد تعرض بلد التاريخ والحضارة والتى تجمع أهم آثار العالم إلى الانتقال من قائمة التراث العالمى إلى قائمة «التراث المهدد»، ما يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل البلاد السياحى، بحسب تحذير الدكتور محمد أبوالغار مؤسس الحزب الديمقراطى الاجتماعى.
إذا صح ما تم تداوله خلال الساعات الأخيرة بأن الحكومة تعيد النظر فى مشروع الكوبرى، فستكون تلك خطوة جيدة على طريق التعامل مع المبانى والمناطق التاريخية والتراثية.