كيف تكون العدالة للجميع.. وتكون عادلة - زياد بهاء الدين - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 3:20 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف تكون العدالة للجميع.. وتكون عادلة

نشر فى : السبت 7 مارس 2009 - 3:02 م | آخر تحديث : السبت 7 مارس 2009 - 3:02 م

 استوقفنى، فى الحوار الدائر بشأن قانون زيادة الرسوم القضائية، والمعارضة الشديدة التى أثارها فى أوساط المحامين، أن على رأس أسباب الاعتراض أن القانون الجديد يزيد من تكلفة التقاضى، وبالتالى يحد من قدرة الشخص العادى على اللجوء إلى المحاكم وعلى الحصول على الحماية القضائية، التى تعتبر فى المجتمعات الحديثة حقا أساسيا من حقوق المواطن. ولا خلاف على ضرورة اعتبار اللجوء إلى القضاء من الحقوق الرئيسية للمواطن وللإنسان، والحصول على الحماية القضائية الشكل الاسمى من أشكال المواطنة الكاملة.

ولكن ما استوقفنى فى الاعتراض على زيادة الرسوم القضائية، هو السهولة التى نقبل بها الافتراض الضمنى بأن حماية حقوق الفقراء ومحدودى الدخل تتطلب الإبقاء على الحد الأدنى من الرسوم ومن التكلفة عموما، وعدم ربط عنصر التكلفة مطلقا بنوعية الخدمة، التى يحصل عليها المواطن. هذا الفرض الضمنى الذى تستند إليه العديد من المواقف المناصرة لحقوق الفقراء فى التقاضى وفى غيره من الخدمات العامة بحاجة للتوقف والتأمل فى عواقبه لأنه يمكن أن يؤدى إلى نتائج عكسية، وإلى تضحية بحقوق الضعفاء لا حمايتها.

ولنأخذ الرسوم القضائية مثالا. فقد يكون المعارضون لزيادتها مدفوعين برغبة صادقة فى حماية حقوق محدودى الدخل فى اللجوء إلى المحاكم والدفاع عن مبدأ أن العدالة للجميع. ولكن الخطر هو أن ينتهى هذا الموقف بالدفاع عن استمرار الوضع الراهن، بكل ما فيه من عيوب، بل ما فيه فى الواقع من تعميق للفجوة بين القادرين وغير القادرين، فالعدالة فى مصر بوضعها الحالى منقوصة بسبب البطء فى التقاضى، وتكدس القضايا، وصعوبة ظروف عمل القضاة والمستشارين، وعدم كفاية الموارد اللازمة لإدارة المحاكم، بالإضافة إلى عدم معرفة الناس لحقوقها، وما آلت إليه مهنة المحاماة.

هذه الظروف الصعبة التى تبدو مساوية للجميع فى تأثيرها السلبى، فى الواقع تكون لمصلحة الطرف الأقوى لأنه فى الغالب يكون الطرف القادر على تحمل مرور الوقت، وعلى الحصول على أفضل ما هو متاح فى هذه الظروف، وعلى اللجوء إلى بدائل أخرى للقضاء مشروعة أحيانا (التحكيم مثلا) وغير مشروعة فى أحيان أخرى (البلطجة والرشوة).

من هذا المنظور علينا أن نسأل أنفسنا، ومن منطلق حماية حقوق الضعفاء، أليس تحسين مستوى الحماية القضائية أكثر أهمية من انخفاض رسومها.. وهل حق التقاضى مكفول بمجرد القدرة على سداد الرسوم.. وهل اللجوء إلى المحاكم هو الغاية أم الحصول على أحكام عادلة وسريعة ونافذة..

وهل حق المواطن فى الحصول على حماية المحاكم يتحقق حينما يدفع رسومها ويظل بعد ذلك فى أروقتها لعشرات السنوات؟ أم يتحقق إذا ما كانت الرسوم أكثر ارتفاعا ولكن بما يسمح بالحصول على الحماية القضائية فى ظروف أفضل، وفى وقت أقل، ومن خلال مؤسسة قادرة على الاستثمار فى أفرادها، وفى زيادة إمكاناتها، وفى الارتفاع بمستوى الخدمة التى تقدمها؟

بمعنى آخر أليس ما يتعرض له ذوو الدخول والإمكانات المحدودة من استغلال وانتقاص للحقوق فى الظروف الحالية أكثر ضررا من زيادة تكلفة الرسوم القضائية؟ أتوقع أن الرد على ما سبق هو أنه لا ينبغى الاختيار بين التكلفة ومستوى الخدمة، وهذا صحيح فى وضع مثالى. ولكن القصد مما أقترحه ليس الاختيار بين الأمرين، وإنما أن النظر إلى مصلحة محدودى الدخل من منظور خفض التكلفة وحده لا يعبر بالضرورة عن مصالحهم، بل قد يكون أكثر ضررا ومؤديا لتعميق التفرقة بينهم وبين القادرين.

هذا التحول من أن تكون الخدمات المجانية ــ أو قليلة التكلفة ــ وسيلة للحفاظ على حقوق الفقراء، إلى أن تصبح وسيلة فى حد ذاتها لتعميق الفجوة بين القادرين وغير القادرين، لا يقتصر على مثال الرسوم القضائية فقط، وإنما يحدث فى كل مرة يتحول فيها منطق الدفاع عن حقوق المواطنين من النظر إلى نوعية الخدمات التى يحصلون عليها إلى النظرة الضيقة لتكلفة هذه الخدمات فقط ولو كانت بمستوى منحدر تماما.

لهذا نجد أنفسنا متحمسين للإبقاء على أسعار المواصلات العامة بغض النظر عما يحصل عليه المواطن من مستوى للخدمة، وندافع عن حق المواطن فى الاستمتاع بالشواطئ العامة المجانية بعدما لم يعد فيها أى مظاهر للاستمتاع ولم تعد مجانية، ونظن أن العلاج المجانى بوضعه الحالى من المزايا التى يحصل عليها الفقراء، بينما لا يخطر على بال المنادين بالإبقاء عليه أن يجدوا أنفسهم يوما فريسة له.

أبادر بالتأكيد على أن ما تقدم لا يعنى المطالبة بإلغاء مجانية العلاج، ولا مجانية الشواطئ العامة، ولا بأن تكون الرسوم القضائية مما يعجز الفقراء عن سداده أو أسعار المواصلات العامة أكثر من قدرتهم على دفعها. ولكن ما أقترحه هو النظر إلى الموضوع من منطق التوازن الضرورى بين التكلفة ومستوى الخدمة، وأن نوعية ما يحصل عليه الناس من الخدمات العامة ــ من المحاكم إلى الشواطئ ــ لا ينبغى أن تنفصل عن خفض تكلفتها، وأن الإصرار على مجرد خفض التكلفة قد يكون ضارا بالضعفاء أكثر مما ينفعهم، وأن التناسب بين مستوى الخدمة وتكلفة إتاحتها ليس عيبا، أما الأكثر فقرا والأكثر احتياجا فإن المجتمعات، التى تسعى لحمايتهم بشكل متوازن تنشئ من المؤسسات والآليات ما يمكنهم من الحصول على نصيبهم من الخدمات العامة من خلال برامج دعم للحق فى التقاضى (أو ما يسمى بالمساعدة القضائية)، ومن خلال برامج مماثلة للخدمات العامة الأخرى، ولكن الفرض بأن الأرخص والأقل تكلفة هو الأفضل للمجتمع غير صحيح، والاعتقاد بأنه يحمى حقوق الضعفاء يمكن أن يؤدى لنتائج عكسية.

زياد بهاء الدين محام وخبير قانوني، وسابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئيس هيئتي الاستثمار والرقابة المالية وعضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري.