صديقة مصرية كريمة، من أسرة عريقة فى الوطنية، تتصل بى تليفونيا بين الحين والآخر، لتعبر عما قد يجيش فى صدرها من أحزان على أحوال مصر. تقول لى: «أنت تكتب وأنا لا أكتب.. فاكتب من فضلك عن كذا وكذا.. فهذا مما لا يمكن السكوت عليه...».
كانت المكالمة التى تلقيتها منها منذ أيام قليلة، عن حالة اللغة العربية فى مصر، إذ أثار شجونها انعقاد المؤتمر السنوى لمجمع اللغة العربية فى الأسبوع الماضى، وسألت نفسها آسفة: «لماذا لا يفعل هذا المجمع شيئا لإنقاذ اللغة العربية، وقد نشأ فى الأصل لحمايتها وصيانتها من العبث؟».
أثار حديثها شجونى أنا أيضا فأنا مثل كثيرين أشعر بغصة فى حلقى مما أراه يوميا من صور الاعتداء البشع على هذه اللغة الجميلة. واللغة فى نظرى (خاصة اللغة العربية) ليست مجرد لغة، بل هى صورة الأمة كلها، ما يحدث لها يلخص ما يحدث للأمة، واحترامها هو احترام الأمة لنفسها، والسماح بالعبث بها هو بمثابة قبول لامتهان العرض. واليوم (وهو ما أرجو ألا يأتى) الذى ننسى فيه المتنبى، أو لا يعرف فيه أولادنا من هو المتنبى، ولا يتذكرون فيه بعضا من شعره، هو يوم حزين لا ينطوى فقط على ضعف علاقة العرب بعضهم ببعض، بل هو أشبه بيوم يفقد فيه المرء ذاكرته، فلم يعد يعرف فيه اسمه أو أصله ولا يتعرف فيه على أهله وأصدقائه.
شعرت من كلام هذه الصديقة الكريمة، أنها تدرك هذا كله، بالضبط كما أدركه، أى أن ما يحدث للغة العربية ليس فقط تدهورا لغويا. ولكن مازاد من شعورى بالحزن ما تدفق به كلامها من أمثلة عما كان عليه حال اللغة العربية فى صبانا. إن سنها مثل سنى، أو هى أصغر قليلا، ومن ثم فقد شهدت فى صباها مجد اللغة العربية كما شهدته. فراحت تحكى لى ذكريات لها مع اللغة العربية تتطابق بالضبط مع ذكرياتى. ثم أخذت تقارنها بما تراه وأراه اليوم من امتهان يومى لهذه اللغة. وقد أضافت إلى ذلك مازاد من لوعتى ونكأ الجرح من جديد، عندما قالت:
«وكان هذا يحدث فى أيام الاحتلال الإنجليزى، فلم يفعل الإنجليز بلغتنا ما فعلناه نحن بها، أو تركونا على الأقل نصون لغتنا ونعلمها لأولادنا بالطريقة الواجبة، دون تدخل منهم. فأى جنون أصابنا بعد أن حصلنا على الاستقلال؟ وأى استقلال هذا الذى يحدث فى ظله هذا الامتهان للنفس؟».
قالت: «لقد أرسلتنى أسرتى إلى روضة الأطفال، التى كانت تسمى بهذا الاسم الجميل، وليس باسم (كى جى). وعلمونا فيها أن نغنى نشيدا جميلا أيضا هكذا مطلعه:
«يا روضتى يا روضتى فيك تتم فرحتى
فتلقبلى تحيتى فى جيئتى وروحتى...»
فما الذى حدث لكى يجعل مثل هذا مستحيل اليوم؟
كنا نسمى مدرسنا الأستاذ أو الآنسة، فلماذا أصبحنا نسميه «مستر» ونسميها «مس»؟ بل وأصبحنا نقول شيئا مثل (المستر بتاع العربى.. أو المستر بتاع الدين). فى مدارسنا كانوا يطلبون منا حفظ بعض القصائد، فنفهم معظمها وقد لا نفهم كثيرا من أبياتها. ولكننا على الأقل تشربنا روح الشعر العربى وإيقاعه وجرسه، فجرت اللغة العربية فى عروقنا، وأصبحنا ننفعل بما قد نسمعه من شعر أو نثر جميل بعد أن كبرنا. فلماذا نستغرب أن أصبح أولادنا لا يتأثرون بما كنا نتأثر به، ولا يتسعذبون ما نستعذبه؟».
قالت إنها ذهبت لزيارة قريب لها فى الشركة التى يعمل فيها وسألت البواب عما إذا كان موجودا، فقال لها: «مستر حاتم؟!. ثم ذكرتنى بأسماء المجمعات السكنية التى نقيمها الآن، ونختار لها أسماء مثل «بيفرلى هيلز»، وهو اسم منتجع أو حى فى كاليفورنيا، ومثل «ليك فيو»، أو «ماونتون فيو»، أى منظر البحيرة أو منظر الجبل، دون أن يكون هناك بحيرة أو جبل، ولكن تشبها بما يعتبر أسماء جذابة لأشياء تتعلق بأمم أخرى نعتبرها راقية.
تساءلت أيضا عن سبب إصرارنا على أن نعلم أولادنا لغة أجنبية قبل أن يجيدوا أو حتى يتعلموا لغتهم الأم. هل تعلم طه حسين الفرنسية قبل أن يتعلم العربية؟ لا، لم يفعل، فهل منعه هذا من إجادة الفرنسية على كبر؟ وقل مثل هذا عن مثقفينا الكبار، الذين أجادوا اللغة العربية والأجنبية إجادة تامة، فأبدعوا عندما استخدموا العربية، وقدموا لنا ترجمات رائعة ومفهومة تماما عندما أرادوا تعريفنا بما أنتجته الثقافات الأخرى، قارن هذا باللغة العربية التى يكتب بها كتابنا الآن، وبالترجمات غير المفهومة التى يقدمونها لنا، التى تحتاج من أجل أن تفهمها إلى أن تترجمها فى ذهنك أولا إلى اللغة الأصلية.
•••
شىء سيئ جدا حدث فأوصلنا إلى هذه النتيجة، ولا علاقة له بالاحتلال الانجليزى أو الاستقلال، بل ولا جدوى من رده إلى أخطاء ارتكبناها فى سياستنا التعليمية.
ما أسهل أن نقول إن علينا أن نغير المقررات الدراسية، أو رفع مستوى مدرسى اللغة العربية، أو أن من الواجب أن يبدأ تعليم اللغة الأجنبية فى سن كذا بدلا من سن كذا. فقد تجاوزت المشكلة هذا الحد منذ زمن طويل، وتعدت أسوار المدارس ومكاتب وزارة التعليم، ووصلت إلى نفوس المصريين ونظرتهم إلى أنفسهم، وغيرت نوع ما يطمحون إلى تحقيقه لأنفسهم ولأولادهم. والمشكلة النفسية تحتاج إلى علاج أعمق وزمن أطول.
باختصار، لقد أدى فشلنا الاقتصادى وفى رسم سياساتنا الاجتماعية والخارجية إلى انتشار الفساد من ناحية، وإلى اتساع الفجوة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية من ناحية أخرى وأدى هذا وذاك إلى تغير نظرتنا إلى أنفسنا بالمقارنة بنظرتنا إلى العالم من حولنا، فاستهترنا بكل ما يميزنا عن غيرنا، وبالغنا فى تقدير ما يفعله غيرنا، إذا كان أكثر ثراء منا. زاد هذا الاستهتار بالنفس، والمبالغة فى تقدير الغير، حتى وصلنا إلى هذه الحالة التى تجمع بين المأساة والمهزلة.
لقد طال عهدنا بهذا الفشل الاقتصادى، وفى سياساتنا الاجتماعية والخارجية، فلم يعد الخروج منه سهلا. ومصدر الصعوبة أن المرض النفسى قد أصاب أيضا القائمين على سياستنا الاقتصادية والاجتماعية والخارجية.
فعندما أعود بذاكرتى إلى أسماء المسئولين القدامى فى مصر، عن التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة الخارجية، حتى فى ظل الاحتلال الانجليزى، أستغرب كم كان لدينا وزراء ومسئولون عظام فى كل هذه الميادين. وقف الانجليزى بالطبع بالمرصاد، ضد بعض مشروعاتهم، ولكنهم استطاعوا، حتى فى ظل الاحتلال، أن يحققوا مكاسب كثيرة. نعم، إنهم لم يستطيعوا مقاومة رغبة المحتلين فى بقاء نسبة الأمية عالية، ولكنهم استطاعوا على الأقل صيانة اللغة العربية. فما بالنا الآن، لا نستطيع لا تخفيض نسبة الأمية، ولا صيانة اللغة القومية؟