سنحت لى الفرصة فى الأسبوع الماضى أن أشارك فى المؤتمر الذى عقدته وزارة التضامن الاجتماعى بمناسبة مرور عام على بدء تنفيذ معاشى «كرامة» و«تكافل» اللذين يستهدفان تطبيق نظام جديد للدعم النقدى المباشر للفقراء. وبينما يتوجه برنامج «كرامة» لكبار السن وذوى الإعاقة ممن لا يمكنهم مزاولة العمل، فإن «تكافل» يستهدف الأسر الأكثر فقرا. وقد أعلنت وزارة التضامن خلال اللقاء أن عدد المستفيدين من البرنامجين معا قد تجاوز الثلاثة ملايين شخص فى المحافظات العشر الأكثر احتياجا ــ وغالبيتهم فى الصعيد ــ وأن العمل جار على استكمال هذين البرنامجين ليشملا كل المستحقين فى باقى المحافظات.
شخصيا فقد كنت من أشد المتحمسين لهذا الموضوع منذ كان فكرة لا تزال محل البحث والتفكير عام ٢٠٠٨، وكان ذلك برعاية الدكتور/ على المصيلحى وزير التضامن الاجتماعى آنذاك، والذى تحمس للموضوع وسعى لتطبيقه، ولكن تقديرى أن الظروف السياسية لم تسعفه ولا الاهتمام الكافى بالقضية الاجتماعية فى هذا الوقت. وظلت الفكرة تصعد وتهبط فى أولويات الحكومات والبرلمانات المتعاقبة حتى اتخذت حكومة المهندس/ إبراهيم محلب قرار تطبيقها، وقامت بتنفيذها بالفعل وزارة التضامن الاجتماعى على مدى العامين الماضيين، ولذلك فهى تستحق كل الثناء والتقدير لان التنفيذ فى نهاية المطاف هو التحدى الأكبر وهو المعيار الحقيقى للنجاح.
أهمية هذا البرنامج تكمن فى أنه لا يمثل مجرد تقديم معاش جديد وفقا للأساليب والأدوات التقليدية التى جرى العمل بها طوال العقود الماضية، وإنما ينطلق من مفهوم مغاير تماما، وهو أن تحقيق العدالة الاجتماعية يكون عن طريق العمل على توفير مظلة شاملة للحماية الاجتماعية، تستند إلى اعادة رسم لخريطة الفقر فى مصر، والتدقيق فى بيانات الثروة والدخول، وبناء قاعدة بيانات موحدة لكل ما يحصل عليه المواطن من دعم نقدى أو سلمى أو خدمى، ثم وضع خطة للاستهداف يكون غرضها الوصول بالدعم إلى مستحقيه والحد من الهدر والفساد فى الانفاق الاجتماعى. وهذا المنظور الجديد هو ما يعطى برنامجى «تكافل» و«كرامة» قيمتهما لأنه يعبر عن منهجية مختلفة وأكثر دقة وإنصافا فى توفير الحماية الاجتماعية، ويعطى متخذى القرار مستقبلا آلية لتطبيق السياسات الاجتماعية المنشودة.
وتجدر الإشارة إلى جانبين مهمين من هذا النوع من البرامج التى تعتمد على الاستهداف: الأول أن هذا الدعم النقدى المباشر ليس بالضرورة بديلا عن الدعم السلعى الذى يجرى تطبيقه منذ سنوات طويلة فى مصر، ولكنه يعتبر آلية مكملة له، يمكن استخدامها فى الوصول بالإعانة النقدية مباشرة إلى مستحقيها كما يتجه الدواء الموضعى إلى حيث تكون الحاجة إليه ماسة وملحة. أما الجانب الثانى فهو أن مبدأ استهداف الفقراء بالدعم ــ سواء كان نقديا أم سلعيا ــ يعنى ضرورة قبول تقييم ودراسة أحوال المستفيدين منه بشكل دورى حتى يتم استبعاد من تحسنت ظروفه أو زالت أسباب استحقاقه، وإلا استمرت مظلة الحماية فى الاتساع وتسرب إليها مرة أخرى من لا يستحقون الدعم.
التحول إذن من الدعم الشامل الذى لا يميز بين الفقراء والأغنياء، أو بين المستحقين وغير المستحقين، هو جوهر التحول المنشود لأن الحقيقة المؤسفة أن تطور الانفاق الاجتماعى خلال العقدين الماضيين يدل على أن الزيادة المضطردة فى الاتفاق العام على جميع أشكال الدعم الشامل حتى بلغ أكثر من ٢٥٪ من جملة الانفاق العام لم يواكبها انخفاض فى معدلات الفقر بل زيادة مستمرة له. وهذه المعادلة المعكوسة لن يمكن تصحيحها إلا بالاعتماد المتزايد على الانتقال إلى مفهوم الحماية الاجتماعية الشاملة وعلى استهداف الفقر والفقراء بشكل سليم.
معاشا «كرامة» و«تكافل» بداية مهمة لهذا التحول الجذرى، ولكنهما ليسا نهاية المطاف بل يوجد عدد من التحديات الاساسية التى ينبغى مواجهتها مستقبلا. على رأسها دوام المتابعة والتصحيح والمراجعة لفترة من الوقت حتى يستقر هذا البرنامج ويتجاوز المشكلات التنفيذية التى لا يزال يعانى منها. كذلك فلا يمكن قبول استمرار تمويل مثل هذا البرنامج من القروض والمنح الأجنبية، بل يجب أن تلتزم الدولة بتوفير الموارد الكافية له من الموازنة العامة حتى تضمن استدامته واستحقاق الفقراء له دون اعتماد على الخارج وعلى تقلبات السياسة والعلاقات الدولية لأنه حق أساسى لهم وليس منحة عارضة. أما على المدى الأطول فيجب عدم الاكتفاء بتطبيق هذين المعاشين الجديدين وحدهما، بل العمل على بناء شبكة حماية اجتماعية، تستند إلى معلومات سليمة وموحدة عن جميع البرامج والمعاشات واشكال الدعم، وخرائط دقيقة ومحدَثة للفقر، وتكامل فى أوجه الإنفاق الاجتماعى، وتوفير فرص العمل. وقد أسعدنى أن وزارة التضامن الاجتماعى أعلنت عن عزمها على استكمال تلك المنظومة تدريجيا بما فى ذلك احياء مشروع الوجبة المدرسية الذى يعتبر واحدا من أركانها الرئيسية، وهذا موضوع يحتاج لتفصيل أكبر.
أما التحدى الأكبر والأخير فهو ضرورة اعتراف الدولة بأهمية الرقابة الشعبية والمجتمعية على برامج الحماية الاجتماعية، لأنه مهما كان نشاط المسئولين اخلاصهم، ومهما تم وضع أنظمة وسجلات وآليات للرقابة، فلابد أن يصيب هذه البرامج التعثر والفساد والانحراف عن الهدف لو لم تكن خاضعة لرقابة البرلمان والمجتمع المدنى والأحزاب والجمعيات التى تمثل أصحاب المصلحة. هذه الرقابة المجتمعية ليست تدخلا فى عمل الإجهزة الرسمية ولا تعطيلا لها، بل مساهمة ضرورية وإيجابية وحقا لكل مواطن فى أن يعلم كيف تنفق الدولة مواردها وما اذا كانت تحقق الأهداف المعلن عنها.