الشهرة أو ذيوع الصيت، شىء محبوب دائما. منذ نعومة أظفارنا وبعد أن يتقدم بنا السن. الطفل الصغير «بل وحتى الرضيع» قد يصبح بلا سبب سوى أن يلفت الأنظار. وبعد أن يتقدم بنا السن نفرح بنشر صورة لنا فى صحيفة، أو بظهورنا فى التليفزيون، فيشير إلينا البعض بأنهم رأونا من قبل على الشاشة. بل وقد يكون من أهم أسباب خوفنا من الموت أن ينقطع ذكرنا. ولكن ليس هذا هو ما أريد أن أفيض فى الكلام فيه فيما يتعلق بالشهرة وذيوع الصيت، فالذى ذكرته أقرب إلى الحاجة البيولوجية التى لا يمكن استئصالها.
هناك أيضا السعى إلى الشهرة، عندما يصبح أقرب إلى المرض وقد يصيب هذا المرض المرء مبكرا ويبقى معه حتى النهاية. ولا نعرف بالضبط مصدر هذا المرض، فلا أستبعد أن يكن أحيانا نتيجة جينات موروثة، ولكن الأرجح أنه نتيجة عقدة نقص يحاول صاحبها تعويضها بالحصول على ما يؤكد له باستمرار أنه أفضل مما قد يظن بنفسه، بدليل ذيوع صيته وتردد اسمه على ألسنة الناس. ولكن ليس هذا النوع من الرغبة فى الشهرة بدوره، هو ما أريد الحديث عنه الآن. فالذى أريد الحديث عنه شىء أسوأ وأخطر.
إنى أقصد اكتشاف بعض الناس لما يمكن أن تجلبه لهم الشهرة من منافع، واستغلالهم لها للحصول على هذه المنافع على حساب من هم أكثر جدارة منهم. أى اكتشاف بعض الناس أن مجرد تردد أسماؤهم بكثرة، ولو دون سبب وجيه يدعو إلى الإعجاب والتقدير، يتيح لهم فرصا لا تتاح للمغمورين، ولو كان هؤلاء المغمورون أكثر استحقاقا منهم، فيقومون باستغلال هذه الفرص بلا هوادة أو رحمة، وتكون النتيجة ظلما فادحا، بل وقد يصل الأمر إلى حد إفساد الحياة الثقافية.
هذه الحالة ليست ظاهرة حديثة، بل لقد عبر عنها من قديم الزمن المثل الشعبى المصرى «الصيت ولا الغنى»، وإن كان هذا المثل لا يشير إلا إلى جزء من الظاهرة، وليس إلى أسوأ جزء منها. لابد أن الشهرة كانت منذ أقدم العصور مصدرا من مصادر الثراء، إذ توحى الشهرة بالوجاهة والتميز، والتميز يوحى بوجود فضيلة حتى ولو كانت غير معروفة أو واضحة، فيعامل الناس صاحب الشهرة بأنه أيضا صاحب فضيلة ما حتى يثبت العكس، وقد لا يثبت العكس إلا بعد فوات الأوان، فيكون المشهور قد حقق ما يصبو إليه وله على حساب الشخص الأفضل والأكثر استحقاقا.
هذه الخدعة التى يستغلها بعض الناس بكفاءة، هى ما عبر عنه الوصف الطريف لرج ذى شهرة بأنه «مشهور بأنه مشهور»، أى أن الشهرة متى بدأت، أيا كان مصدرها، تستمر بالنمو الذاتى، فتستمد غذاءها من نفسها، وتتضخم حتى ينسى الناس مصدرها، ولا يتوقفون للسؤال عن سببها، إذا كان لها سبب على الإطلاق.
تفتح هذه الشهرة لطالب الثراء أبواب الرزق، كأن يتيح له الالتقاء بأصحاب النفوذ القادرين على إتاحة فرصة الإثراء، وتفتح له أبواب البنوك التى تستبعد أن يكون شخص بمثل هذه الشهرة، ومثل هذه العلاقات مع أصحاب النفوذ، عاجزا عن سداد ما تمنحه له من قروض، وأبواب وسائل الإعلام، إذ يحب أصحاب وسائل الإعلام الأشخاص المشهورين لان شهرتهم تجلب لصحفهم أو برامجهم التليفزيونية المزيد من القراء والمشاهدين، فتزداد أرباحهم.
لا صعوبة إذن فى تفسير المثل الشعبى «الصيت ولا الغنى«، أى أن تحصيل الشهرة قد يكون وسيلة أكثر فعالية فى تحقيق الثراء من السعى إلى تحصيل الثراء مباشرة. ولكن الأسوأ من ذلك بلا شك أن يصبح تحصيل الشهرة بديلا ناجحا عن وجود الموهبة، أى أن يصبح السعى إلى الشهرة طريقا مضمونا لاعتراف الناس بك كفنان عظيم أو أديب كبير أو عالم محترم. هذه هى الظاهرة التى أريد أن أتناولها ببعض التفصيل، إذ أنها شاعت أخيرا فى مصر على نحو يدعو للقلق، وأدى شيوعها إلى قدر غير بسيط من الفساد فى حياتنا الثقافية.
* * *
إنى أذكر جيدا أن الأمر لم يكن كذلك فى صباى ومطلع شبابى، أى منذ ستين أو سبعين عاما. كان أشهر كتابنا قبل الحرب العالمية الثانية طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد، وأشهر ممثلينا يوسف وهبى ونجيب الريحانى، وأشهر مطربينا أم كلثوم وعبدالوهاب. ولا أظن أن أحدا يمكن أن يدحض فى استحقاق أى من هؤلاء للشهرة استنادا إلى ما كانوا يملكونه من موهبة. وقد حققت الشهرة والموهبة لهم جميعا قدرا من بحبوحة العيش، ولكن دون إفراط فى الثراء.
أظن أن ربع القرن التالى «٤٥ ــ ١٩٧٠» كان بمثابة فترة انتقال، من حيث قدرة الشهرة على جلب الثراء وكذلك من حيث اعتماد الشهرة على الموهبة. كانت هذه هى فترة لمعان أسماء مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس فى الأدب، وعبدالحليم حافظ فى الغناء، وكمال الطويل وبليغ حمدى فى الموسيقى، وصلاح عبدالصبور وحجازى وصلاح جاهين فى الشعر، وتحية كاريوكا وفاتن حمامة وسعاد حسنى فى السينما..إلخ. وكلهم لا جدال فى اعتماد شهرتهم على الموهبة، ولكننا لم نعرف عن أى منهم ثراء فاحشا.
ثم بدأ «الانفلات العظيم» بعد ذلك، حيث بدأت تلمع أسماء لمعانا شديدا، سمح لأصحابها بتكوين ثروات كبيرة، دون أن تتوفر لهم ما توفر للجيلين السابقين عليهم من شبه إجماع على التميز فى الموهبة واستحقاق الشهرة. سأترك للقارئ محاولة أن يتعرف على أسماء ينطبق عليها هذا الوصف فى ميادين الأدب والشعر والغناء والتأليف الموسيقى والمسرح والسينما. سوف تختلف آراؤنا بالطبع وتقييماتنا لهذا الأديب أو الفنان أو ذاك، ولكنى لا أطمع من القارئ فى أكثر من أن يتفق معى على أنه قد حدث فى الأربعين عاما الماضية انكسار وانفصام واضحا بين الشهرة من ناحية، وبين استحقاق الثراء وتميز الموهبة من ناحية أخرى.
إذا اتفقنا على ذلك ثار التساؤل عن السبب. وأنا أقترح التفسير التالى. لقد دخلنا منذ نحو أربعين عاما «عصر الجماهير الغفيرة» حيث زاد بشدة حجم الكتلة البشرية، التى ترفع من شأن البعض أو تخفضه. زاد هذا الحجم مع اتساع الثورة الشرائية لشرائح جديدة من المجتمع، بسبب الهجرة أو التضخم أو الانفتاح على العالم الخارجى، وزيادة عدد العاملين فى خدمة الأجانب، سواء كانوا سياحا أو أصحاب شركات أجنبية. كما زاد حجم هذه الكتلة البشرية المؤثرة بوصول التليفزيون وانتشاره كانتشار النار فى الهشيم.
إن هذا هو العصر الذى شاع فيه استخدام الميكروفون فى كل مكان، بصرف النظر عن مدى الحاجة إليه، وكذلك بصرف النظر عن جمال الصوت الذى يصلنا من خلاله، بما فى ذلك استخدامه فى الأفراح، حيث يغطى ارتفاع صوت المغنى على قلة حظه من الموهبة. هذا هو أيضا العصر الذى اشتهر فيه لاعبو الكرة فأصبحوا نجوما ينافسون نجوم السينما فى الشهرة والثراء، وأصبح يكفيهم لتحقيق هذا الثراء ظهورهم فى بعض الإعلانات التليفزيونية.
استمر بالطبع استخدام القرب من السلطة وأصحاب النفوذ كوسيلة فعالة لتحقيق الشهرة، ومن ثم الثراء أيضا، بصرف النظر عن درجة الاستحقاق وحجم الموهبة. ولكن من الطريف أن نلاحظ أنه بدأ فى هذا العصر لجوء أصحاب السلطة والنفوذ إلى التقرب من النجوم، سواء كانوا نجوما فى الكرة أو السينما أو الأدب، فأصبح كل من الطرفين يبالغ فى دعم الآخر، بصرف النظر عن استحقاق أى منهما، طمعا فى تحقيق مزيد من الشعبية.
هذه الظاهرة لا تقتصر بالطبع على مصر. فظاهرة الجماهير الغفيرة انتشرت فى العالم كله، المتقدم والمتأخر، وانخفضت معها معايير التقييم والتبجيل. ولكنى أشعر بأنها تزداد قبحا فى مجتمع لم يكن قد بلغ بعد سن الرشد الاقتصادى والثقافى، عندما وصلت إليه هذه الظاهرة، حيث لاتزال تشيع فيه الأمية، ويسهل فيه الاحتيال والتظاهر بغير الحقيقة، ويشتد فيه سحر الظهور على شاشة التليفزيون، التى يجلس أمامها ملايين من الناس ساعات طويلة من الليل والنهار، وقد فتحوا أفواههم مشدوهين بما حققه المشهورون من نجاح.