شاءت الظروف أن أكون خارج مصر طوال الأسبوع الماضى، والذى بدلا من أن يكون مناسبة للاحتفال بمرور عامين على سقوط الحكم الإخوانى، تحول إلى أسبوع المواجهة الشاملة ببن الدولة والإرهاب ولحظة فارقة قد يتحدد على أساسها مستقبل البلد.
الأكيد أن الشعب المصرى، بكل طبقاته وطوائفه وأجياله وقواه الوطنية، اتحد خلال الأيام الماضية فى رفضه للخضوع أو الاستسلام للإرهاب المتصاعد، وفى مؤازرته للدولة والقوات المسلحة، وفى مساندته لأسر الشهداء والضحايا الذين سقطوا فداء للوطن. وقد عبر هذا الاصطفاف الوطنى، دون ترتيب أو تنظيم مسبق، عن إدراك الشعب المصرى أن الدولة والمجتمع أمامهما عدو واحد جدير بأن تُـحشد ضده كل الإمكانات ويصطف الشعب لمواجهته بلا تردد أو انقسام، وهو الإرهاب المسلح الذى يسعى لتقويض الدولة وتهديد وحدتها وهدم مؤسساتها وتبديد أملها فى التنمية والاستقرار.
هذه معركة لم تنته. ولكن لكى يتحقق الانتصار الحاسم فيها، فلابد من التمسك بهذا الاصطفاف الوطنى الذى استعاده البلد فى لحظة الخطر الداهم، والحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه، لأنه طوق النجاة الذى لا يجوز التفريط فيه.
والحفاظ على الاصطفاف الوطنى يتطلب أن نقف وقفة جادة ومخلصة لتقدير حقيقة أن المجتمع المصرى قد تعرض خلال العامين الماضيين لحالة من الانقسام والتفرق والصراع الداخلى التى لم يستفد منها سوى جماعات الإرهاب وكل من يراهن على فشل البلد، وأن هذا الانقسام فى الصف الوطنى كان خطأ فادحا تسبب فيه من أصروا على تجاهل الخطر الحقيقى الذى يواجه الوطن وتفرغوا لتصفية الحسابات السياسية واقتسام غنائم ٣٠ يونيو. وبدلا من التمسك بالحد الأدنى من التعاون والتنسيق بين الأطراف الحريصة على دحر الإرهاب والحفاظ على مدنية الدولة والتقدم على طريق التنمية والعدالة، انطلقت حملة شعواء لملاحقة الشباب الذى تصدر صفوف ثورتى يناير ويونيو، والرموز والشخصيات الوطنية من كل اتجاه، والإعلاميين المستقلين، والمشاركين فى العمل الأهلى وفى النشاط الحزبى، والمعتدلين من التيار الاسلامى ممن عارضوا حكم الإخوان، وأصحاب الخبرات والكفاءات المتراكمة خلال عهد مبارك الذين يحتاج إليهم البلد اليوم. لم يسلم أحد من حملة تشويه كل تيار سياسى وفكرى وكل صاحب رأى أو موقف مستقل، بينما خطر الإرهاب ينمو، مستفيدا من هذا المناخ المعبأ بالتخوين والانقسام والصراع السياسى.
لا أتحدث هنا عن إعادة بناء تحالف ٣٠ يونيو، فهذه كانت لحظة تاريخية ذات طبيعة خاصة، اجتمعت فيها قوى متنافرة سياسيا على هدف واحد وهو إسقاط الحكم الإخوانى، وكان طبيعيا أن ينفض لاختلاف أطرافه فى مواقفهم الفكرية ومصالحهم الاقتصادية والسياسية. ولهذا فالخطأ لم يكن انفضاض هذا التحالف المؤقت، وإنما ألا يجرى وضع واحترام القواعد والضوابط والآليات التى تسمح بإدارة الخلافات والتناقضات على نحو ما هو ضرورى فى كل مجتمع يحترم التعدد، بحيث يكون هناك مجال للتوافق والاصطفاف الوطنى فى مواجهة المخاطر الكبرى ــ وعلى رأسها الإرهاب ــ والاتفاق على الأولويات الملحة لإنقاذ الوطن، ولكن مع قبول اختلافات الرؤى السياسية والاقتصادية مادامت سلمية. ومن هنا تأتى أهمية احترام قواعد الدستور والقانون، ليس لأنها مقدسة أو بلا عيوب، وإنما لأنها الوسيلة الوحيدة للحفاظ على التعدد والتنوع والاختلاف فى إطار اصطفاف وطنى كبير.
أتصور أن هناك من سيقول أن هذا الكلام قد فات أوانه لأن المعركة مع الإرهاب لن يحسمها على الأرض سوى القوات المسلحة والشرطة، وأنه لا مكان للقوى السياسية والاجتماعية ولا الحديث عن الدستور والقانون فى هذه المواجهة المصيرية. ولكن مع ثقتى الكاملة فى قدرة واستعداد الجيش المصرى للانتصار على الإرهاب عسكريا، فإن مواجهة الإرهاب والانتصار عليه بشكل كامل لن يكتمل إلا بمواجهته سياسيا وفكريا، وتجفيف منابع تمويله ومساندته، ومنع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التى تدفع الشباب للانضمام إلى صفوفه. وهذا كله لن يتحقق ما لم يزل الاضطراب الشديد فى الأولويات الذى ساد طوال العامين الماضيين وجعل الدولة والإعلام التابع لها لا يفرقان بين من يحمل السلاح فى وجه الوطن والمواطنين، ومن يدافع عن رأى ويعبر عن موقف مستقل أو معارض من داخل الصف الوطنى ويتمسك بالقانون والعدالة حرصا على مصلحة البلد.
الوقت لم يفت للمراجعة، وبقدر ما تأتى الأحداث الجسام بخسائر وضحايا وتثير حزنا وألما وغضبا، فإنها تفتح أبوابا لتصحيح المسار والاستفادة من دروس سابقة. وأهم هذه الدروس أن الانتصار على الإرهاب يتطلب الحفاظ على تماسك المجتمع، والخروج من الحالة المحمومة التى دفعت به للانقسام، وأن هذا التوحد والاصطفاف الوطنى هو التعبير الأسمى عن تقديرنا للتضحيات التى بذلها من سقطوا فى ساحة المعركة ضد الإرهاب لكى ينعم غيرهم بالأمن والسلام.
*****
مع خالص التعازى للشعب المصرى ولأسر شهداء الوطن وعلى رأسهم المستشار هشام بركات وضباط وجنود القوات المسلحة الأبرار والدعاء لهم بالجنة ولذويهم بالصبر والسلوان.