عندما تقرأ عن حياة أحد العلماء وتتفحص سيرته الذاتية ثم تسعى لتقييم هذا العالم والاستفادة من دروس حياته يجب عليك أن تنظر إلى شيئين: علمه وعمله.
علمه هو مقدار مساهمته في المعرفة العلمية للإنسانية فالعلم تراكمى وكل عالم يضع لبنة صغيرة في صرح العلم عبر التاريخ، بالطبع ذلك يستلزم الكثير من الجهد والعمل ولكن ذلك النوع من العمل هو جزء لا يتجزأ من العلم فلا علم بدون عمل فنحن لسنا أنبياء ليأتينا الوحى بعلم لدنى!
عندما أذكر العمل بجانب العلم فأعنى نوع آخر من العمل وهو العمل الذى يعطى بعداً إنسانياً للعالم (وقد نتكلم في المستقبل عن رومانسية العلم) ومن ذلك إعطاء الخبرة للطلبة وهذا أكثر من مجرد تدريس مادة معينة أو الإشراف على رسالة ماجستير أو دكتوراه (فأنت قد تشرف على رسالة طالب معين بطريقة ميكانيكية وسطحية)، ما أتكلم عنه هو تبنى الطلبة علميا ولدينا في مصر الكثير من الأمثلة عن أساتذة كانت تفنى أعمارها في سبيل طلبتها وقد سمعت عشرات القصص من والدى وأساتذتى عن ذلك في جامعاتنا وقد أحكى عنها يوما. من الأعمال التي تدخل أيضا في هذا البعد الإنسانى المساهمة في مساعدة بلدك عن طريق عمل مشروعات أو المساهمة بأفكار أو مساعدة صانعى القرار بالمشورة وذلك بدون النظر إلى الناحية المالية أو الشهرة وإلا انقلب البعد الإنسانى إلى مجرد "بيزينس"، ما لم يكن ذلك هو مصدر رزقك الوحيد، البعد الإنسانى قد يظهر أيضا في السعي لتكريم عظماء بلدك الذين لا يعرفهم أحد عن طريق التعريف بهم وبأعمالهم، البعد الإنسانى يظهر في اهتمام العالم بالأجيال الجديدة عن طريق إعطاء بعض الوقت لهم سواء بالمحاضرات أو التأليف أو حتى مقابلات معهم لإعطاء القدوة فأنت كعالم لا تعلم مدى التأثير الإيجابى الذى تتركه في الشباب الصغير عندما تتكلم معهم، فضع البذور ودعها تنموا. هذه فقط بعض الأمثلة للقليل من الأعمال التي تدخل في نطاق البعد الإنسانى للعالم.
في تاريخنا الحديث في مصر الكثير من الأمثلة التي جمعت بين عظمة العلم والعمل، وفي هذا المقال سنتكلم عن إحدى هذه الأمثلة.
هو رائد طب الرمد في مصر بل ولن نكون مبالغين إذا قلنا أنه أبو طب العيون في مصر، ولعلنا نشعر بأهمية هذا التخصص إذا علمنا أن قبل الدكتور محمد علوى باشا كان الرمد يعالج شعبيا وقد أطاح ذلك "العلاج الشعبى" بالكثير من العيون منها عيون عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، طلب العلم في مصر وفرنسا وكان من أعمدة مؤتمر مصر الطبي الأول عام 1902. نستطيع أن نقول و بدون مبالغة أن محمد علوى باشا قد حاز على العظمة في العلم وتدين له "عيون مصر" بالفضل، فماذا عن عظمة العمل؟
كان الدكتور محمد علوى باشا طبيب العيون للأسرة الخديوية نظرا لبراعته الشديدة وقد استغل ذلك لخدمة بلده كما سنرى.
كانت الدار التى تقيم فيها الجامعة المصرية آنذاك (لم تكن تسمى بهذا الإسم وقتها) ليست ملكا لها وكانت الجامعة تنفق فى كل عام أموالا طائلة قد تصل إلى 400 جنيه (مبلغ كبير جدا وقتها) على الإيجار وبالرغم من ذلك كانت تلك الدار لا تسع كل أعمال الجامعة ولا تصلح لأن تكون مقرا ثابتا لها، بل وكان صاحب الدار (وكان اسمه "جناكليس") يريد بيعها.
أقنع محمد علوى باشا ابنة الخديوى إسماعيل الأميرة فاطمة بالتبرع بالمال والأرض وريع الكثير من الأفدنة لبناء جامعة مصرية، فأوقفت 6 أفدنة لبناء دار جديدة للجامعة، وخصصت ريع 661 فدانا من أجود الأراضى الزراعية بمديرية الدقهلية للجامعة وكان ذلك يدر 4000 جنيه سنويا! وقد أقيم الاحتفال بوضع حجر الأساس يوم الاثنين 31 مارس سنة 1914.
بالإضافة إلى ذلك كان الدكتور محمد علوى باشا أحد ثلاثة أصروا على تخليد ذكرى مصطفى كامل باشا عن طريق إقامة تمثال له في الميدان المعروف الآن باسمه، وليس هذا كل شيء بل كان الدكتور أيضا من أعضاء الجمعية التشريعية ومجلس المعارف الأعلى.
توفى الدكتور محمد علوى باشا سنة 1918 وقد كتبت الآنسة مى زيادة مقالا في تأبين هذا العالم العظيم علما وعملا في جريدة المحروسة بتاريخ 26 أكتوبر 1918، فلتقرأ مقتطفات من هذا المقال:
- "لو كنت شاعرًا لقلت إن الأمطار المتدفقة في هذين اليومين ليست إلا دموع عيون تعهدتها عنايته وشفاها علمه".
- "أما الجامعة المصرية فكان يصرف فيها من وقته شطرًا كبيرًا غير مُبالٍ بما تُكبِّده أمورُها من نَصَبٍ وكَدٍّ، شأن الذين يحبون شيئًا فيرون التعب لأجله راحة، ويحسبون القيام بالواجب تقصيرًا".
- "إن الأعمال اليومية المتتابعة تستدعي شجاعة عظيمة وثباتًا مستمرًّا، وقد تكون أحيانًا أكثر فائدة وأجلب خيرًا من أعمال باهرات تُدوِّي بذكرها الأندية".
أرجو منك أن تتذكر الدكتور محمد علوى باشا عندما تذهب إلى جامعة القاهرة وتتذكره عندما تسير في وسط القاهرة في الشارع الواقع بجانب شارع شريف ويسمى بشارع علوى حيث كانت تقع مقاهى البورصة قبل إزالتها بقرار من الحى.
رحم الله محمد علوى باشا عظيم العلم والعمل.