فى مقال سابق نشر لى بهذه الجريدة 17/8/2013 أطلقت على السبعين عاما الماضية اسم (العصر الأمريكى) وهى الأعوام التى انقضت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية خلال هذه السبعين عاما، شهدت مصر (مثل غيرها من بلاد العالم الثالث) استبدال استعمار جديد بالاستعمار القديم، وديمقراطية مزيفة بديمقراطية أخرى مزيفة ولكن بشكل آخر، وصورة أخرى من سيطرة رأس المال على الحكم، دون القضاء على هذه السيطرة، وفشلا فى تحقيق العدالة الاجتماعية (باستثناء فترة قصيرة للغاية). فلماذا كان هذا كله من سمات «العصر الأمريكى»؟ هذا هو ما سأحاول بيانه الآن.
كانت للولايات المتحدة فى منتصف القرن العشرين سمات وخصائص مختلفة جدا عن خصائص الدولتين الاستعماريتين السابقتين (بريطانيا وفرنسا). فظروف الولايات المتحدة الجغرافية والسكانية والاقتصادية مختلفة عن ظروف هاتين الدولتين فى أمور مهمة، فضلا عن أن انقضاء أكثر من قرن بين بداية عصر السيطرة الأوروبية وبداية السيطرة الأمريكية، بما حفل به من تطورات تكنولوجية، كان لابد أن يميز العصر الأمريكى عما سبقه. ترتب على هذا وذاك ان الاحتياجات والطموحات الأمريكية فى البلاد التى سميت حينئذ ببلاد «العالم الثالث»، كان لابد أن تختلف عن احتياجات وطموحات بريطانيا وفرنسا.
كانت الصناعة الرئيسية التى تقود النمو الاقتصادى فى بريطانيا وفرنسا، طوال القرن التاسع عشر، هى صناعة المنسوجات، أما فى الولايات المتحدة فى النصف الأول من القرن العشرين فكانت صناعة السيارات، كانت بريطانيا وفرنسا فى حاجة إلى استيراد القطن الرخيص أو المواد الأولية الرخيصة، التى تنتجها أيد عاملة تقبل أجورا منخفضة للغاية بسبب الفقر، أما أمريكا فكانت غنية بالقطن وغيره من المحاصيل الزراعية التى تبحث عن أسواق. فى العصر الأمريكى زادت أهمية الحصول على أسواق فى الخارج، ليس فقط للمحاصيل الأمريكية الزراعية ولكن لصناعات أخرى جديدة، من السيارات والكوكاكولا إلى بعض أنواع الآلات والسلع والبسيطة، إلى الأسلحة. أما استيراد المواد الأولية، فكان أكثرها إغراء البترول. رغم غنى الولايات المتحدة به أيضا، إذ أصبحت لهذه السلعة الاستراتيجية أهمية كبرى فى الحروب وفى فرض السيطرة على العالم. استمرت إذن الحاجة إلى «الاستعمار»، ولكن ما أبعد سمات الاستعمار الجديد عن سمات الاستعمار القديم.
كان الاستعمار القديم يتطلب دائما احتلالا عسكريا فلم يعد الاستعمار الجديد يتطلبه دائما (ومن ثم أصبح من الممكن جدا الاستغناء عن تلك الأوصاف المثيرة للقصد بما فى ذلك كلمة «الاستعمار» نفسها) أصبح من الممكن الاكتفاء بإحداث انقلاب عسكرى يقوم به أشخاص من أبناء البلد المستعمر نفسه، وفى ظل رفع شعارات تندد بالاستعمار وتمجد الحرية والاستقلال.
انت الآن تتعامل أساسا، ليس مع عمالة زراعية مقهورة يجب ألا ترتفع أجورها، لكى يستمر انخفاض تكاليف ما تنتجه من محاصيل، تتعامل مع زبون (مستهلك) يهمك أن يرتفع دخله حتى تستمر قدرته على شراء ما تنتجه انت. هناك طبعا صور متعددة لزيادة الدخل، بعضها يأتى من رفع الثورة على إنتاج سلع تنافس ما تريد تصديره، وهذا يجب منعه أو التحكم فيه بشدة، وبعضها يتحقق دون زيادة تذكر فى القدرة الإنتاجية، كالسياحة مثلا، أو إنتاج سلع وخدمات أخرى لا تنافسك (مثل دخل قناة السويس أو تحويلات العاملين فى الخارج فى قطاعات خاضعة لك من الأصل) أو يتحقق من بيع الأصول نفسها (كالبترول إذا وجد أو عن طريق ما يسمى بالخصخصة).
كم كان رائعا ان تخطر بذهن البعض فكرة «التنمية الاقتصادية» كشعار من الشعارات التى دشن بها العصر الأمريكى (وكان يجرى تجنبها تماما فى عصر الاستعمار السابق عليه). لا أحد ينكر بالطبع ضرورة انتشال البلاد الفقيرة من الفقر، ولكن أفكار ونظريات التنمية الاقتصادية التى دشنها العصر الأمريكى كانت (ولا تزال) مدهشة حقا فى تجاهلها ما يميز بلدا فقيرا عن بلد آخر، وفى تلخيص الفوارق بين البلاد الفقيرة والغنية فى الفارق بينهما فى «متوسط الدخل»، واعتبار نقص الادخار ورأس المال أهم عقبة فى طريق التنمية (وليس مثلا العوامل المؤثرة فى إنتاجية العامل غير رأس المال، أو المتعلقة بدور الدولة ومدى نزاهتها أو انتشار الفساد فيها...الخ)، واعتبار المعونات الأجنبية تارة والاستثمارات الأجنبية الخاصة، تارة أخرى، هى مفتاح هذه التنمية (أو حتى النهضة كلها). قدمت كل هذه الأفكار على أنها أفكار مسلم بها ولا اختلاف عليها فى «نظرية التنمية الاقتصادية»، وقبلناها نحن أيضا بسذاجة مدهشة دون أن نتبين أنها ليس أكثر من رؤية العصر الأمريكى للسياسات واجبة التطبيق فى الدول الفقيرة.
كذلك حظيت دول العالم الثالث بنظم ديكتاتورية أو «ديمقراطية»، بحسب متطلبات العصر الأمريكى. ديكتاتوريات طالما كان المطلوب إحلال النفوذ الأمريكى محل نفوذ الدول الاستعمارية القديمة، أو لمواجهة التوسع السوفييتى أثناء الحرب الباردة، وديمقراطيات مزيفة فيما بعد ذلك. أما عن العلاقة بين رأس المال والحكم، فقد انقضى بالطبع عهد سيطرة الاقطاعيين المتحالفين مع الدول الاستعمارية القديمة، وحلت محلها سيطرة الضباط المتحالفين مع الولايات المتحدة طالما استمرت الحرب الباردة، أما فى عصر الوفاق بين القوتين العظميين ثم بعد سقوط الاتحاد السوفييتى، فأصبح من المناسب جدا أن يتحقق تزاوج بين أصحاب رأس المال وأصحاب السلطة السياسية، على نمط شبيه جدا بالنمط السائد فى الولايات المتحدة نفسها. وفى ظل هذا التزاوج يصبح الحديث عن هدف العدالة الاجتماعية فى دول العالم الثالث حديثا مزيفا مثلما هو فى داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
●●●
كل هذا كانت تشترك فيه مصر، وسائر البلاد العربية الأخرى طوال السبعين عاما التى عاشها حتى الآن العصر الأمريكى. ولكن هذه السبعين عاما كانت تحمل لمصر وبقية العرب كارثة أخرى، هى دولة إسرائيل. لقد كان إنشاء هذه الدولة ابتداء، ثم نموها وزيادة قوتها وصلفها واستمرار تعكيرها لصفو الحياة فى البلاد العربية، من سمات العصر الأمريكى أيضا. مما يحتاج إلى حديث خاص.