نشرت صحيفة القدس الفلسطينية مقالا للكاتب جمال زقوت تناول فيه العنف الذى تتعرض له المرأة الفلسطينية من قِبل الاحتلال الإسرائيلى والمجتمع الفلسطينى، مشيرا إلى أنه لا يمكن بأى حال من الأحوال تأجيل النضال من أجل قضايا المرأة الاجتماعية منها والاقتصادية وحقوقها الطبيعية فى المساواة الكاملة لحين إنجاز الاستقلال والتحرر الوطنى... نعرض من المقال ما يلى.
الكتابة عن حملة مناهضة العنف ضد المرأة، لا تستهدف فقط تسليط الضوء على مخاطر هذه الظاهرة التى تعانى منها النساء فى جميع دول العالم. وكون العنف فى فلسطين مركبا، المجتمعى من جهة والاحتلال من جهة أخرى، يجعل وضع المرأة الفلسطينية فريدا، بما يتطلبه ذلك من بحث جدى فى مدى مسئولية المجتمع بمؤسساته الرسمية والأهلية، بما فى ذلك النسوية، عن تفاقم هذه الظاهرة، ومحاولة بلورة حلول عملية لمعالجتها، على الأقل من أجل توحيد الجهود المجتمعية فى مواجهة عنصرية وعنف المحتلين.
الإصرار على عدم تغيير البيئة والحاضنة القانونية التى هى بمثابة خلاصة تطور وعى وثقافة المجتمع بفئاته المختلفة إزاء قضية المرأة كإنسان، أو حالة عدم القطع مع موروث رجعى لا يزال يخفى فى ثناياه التعامل مع المرأة وكأنها مواطن من الدرجة الثانية، وما يترتب على ذلك من ثقافة الإقصاء والتمييز وسلب الحقوق ومقاومة مبدأ المساواة الذى بدونه لن يكون المجتمع سويا، بل يحمل فى ثناياه أدران من الأمراض الاجتماعية الأخرى التى لا تقتصر على قضايا المرأة، بل وتمتد لمكونات المجتمع بأسرها.
دون إدراك أن العنف ضد المرأة هو عصارة العنف ضد المجتمع برمته، وليس نصفه، وأن التمييز ضدها هو انتهاك خطير يمس سوية المجتمع وأجياله القادمة من الجنسين. وهنا تكمن مسئولية الحركة الوطنية ونظامها السياسى الذى بدلا من التصدى لهذه الظاهرة بجرأة، فإنه يشيح بنظره عنها، ويتعامل مع جوهر قضايا المرأة بطريقة ديكورية لمجرد تحسين صورته المتآكلة.
عنف المجتمع ضد المرأة هو عنف المجتمع ضد نفسه، وهذا لا يُعالج بحملة لعدة أيام من السنة، بل برؤية شاملة ذات طابع مدنى تقدمى بمركباتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية، كما يستدعى بلورة توجها للحكم يؤصل لهذه الرؤية، ويدمجها فى أجندة وطنية شاملة لمكونات فلسفة الحكم الأوسع، حيث المجتمع بأكمله ما زال يخضع للاحتلال، ويعانى من سياسة القمع والعنف العنصرى بأشكاله المختلفة، وما يستدعيه ذلك من رؤية واقعية خلّاقة تربط متطلبات ومهام مرحلة التحرر الوطنى بمهام البناء الديمقراطى بأبعادها المختلفة، وليس أوضح من قضية المرأة للتدليل على هذا الربط، فلا يمكن بأى حال من الأحوال تأجيل النضال من أجل قضايا المرأة الاجتماعية منها والاقتصادية وحقوقها الطبيعية فى المساواة الكاملة لحين إنجاز الاستقلال والتحرر الوطنى.
بديهى أن شعبا يتغاضى ويشيح النظر عن حريه النساء فيه، والتصدى لما يتعرضن له من عنف وإقصاء، فإنه يُخرجُ من معادلة الكفاح الوطنى رافعة أساسية من مكوناته. كما أن مفهوم الحرية فيه سيظل قاصرا ومشوها، ما لم يشمل حرية جميع مواطنيه رجالا ونساءً، والتأصيل القانونى للمساواة بينهما، سيما لجهة إقرار قانونى حماية الأسرة والعقوبات.
لن ينجح أى مجتمع فى وأد العنف المجتمعى سيما تجاه النساء إذا استمر بالصمت والتواطؤ على قتلهن، ودون ترسيخ الطمأنينة والشعور بالأمن الاجتماعى، ومكافحة مظاهر العنف داخل وحدة المجتمع الأساسية وهى الأسرة، وما يتطلبه ذلك من سياسات اقتصادية واجتماعية وتربوية تكافح الفقر وترسى العدالة الاجتماعية وثقافة المساواة الكاملة بين الجنسين، سيما فى مناهج التعليم التى ما زالت تتسم بالذكورية، وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص فى سوق العمل الحكومى والخاص والأهلى على حد سواء.
رغم تفاقم مثل هذه العنصرية، وتسارع انحدارها نحو الفاشية الرسمية، تكتفى السلطة الحاكمة المنقسمة ببيانات الإدانة المكررة، وتتمترس قواها المهيمنة على المشهد على ضفتى الانقسام، غير آبهة بالانحدار نحو حالة انفصال شبه ممأسسة، وما يترتب عليها من تقاسم واحتكار للسلطة، وتغييب الرقابة والمساءلة البرلمانيتين، وإلغاء استقلالية السلطة القضائية، وتفشى ظواهر الفساد والمحسوبية، وعدم الاكتراث بحقوق المواطنين، والأخطر استمراء محاولات التماهى مع الحركات الرجعية، التى تطلق تحريضها المسموم ضد الناشطات والمؤسسات النسوية، وتداعيات ذلك كله على النسيج الاجتماعى والسلم الأهلى، وتزايد مظاهر الاحتقان والعنف، حيث المرأة ضحيته الأساسية.
بينما تواصل تلك المنابر الرجعية تضليل الناس؛ بأن الدفاع عن حقوق النساء باعتبارها حقوق إنسان، بما فى ذلك الحث على ترشيد سن الزواج ومنع الزواج المبكر، كى تكون المرأة مؤهلة لتنشئة أسرة متماسكة، وتصون حقوقها كزوجة، ومواطنة صالحة، إخلالا بالآداب العامة، يستمر للأسف صمت المؤسسة الحكومية، وتردد المؤسسات المجتمعية، وإحجامها عن استخلاص العبر، وبلورة توجهات وخطط جدية لمواجهة حملات التحريض، وبما يشى وكأنها تضع مسافة عن الحقوق النسوية التى تضمنتها اتفاقية سيداو، كما تستمر المؤسسة الرسمية بمهادنة هؤلاء «الرجعيين» عندما يتصل الأمر بقضايا المرأة، وترك الناشطات يواجهن مخاطر التحريض على حياتهن دون اكتراث منها.
السلطات القمعية والديكتاتوريات الحاكمة، وعندما تختل قواعد حكمها، بسبب فشلها وفسادها واحتكارها للسلطة والثروة، تتمادى أكثر، وتلجأ دوما للاحتماء بـ «سلطة الدين» ليس لإرساء قيم التسامح والتعاضد التى دعت لها مختلف الأديان السماوية، بل لتحصين هيمنة هذه السلطات من النقد. يجرى ذلك فى وقت تتعرض فيه قضية شعبنا وحقوقه الوطنية لخطر جدى وملموس، لم يعد يقتصر فقط على اندفاع المشروع الصهيونى نحو الفاشية العنصرية وشهيته لحسم معركته التاريخية مع شعبنا وحقوقه ومشروعه الوطنى، بل وأيضا بفعل تخلى الحركة الوطنية عن دورها الكفاحى الوطنى، واستعدادها للمساومة على حقوق شعبنا الوطنية مع المحتل من جهة، وعلى طابعها التقدمى والحقوق المدنية للمواطنين مع القوى الرجعية المحلية من جهة ثانية. الأمر الذى يفرض على جميع الوحدويين الوطنيين والتقدميين فى فلسطين وشتاتها التصدى لهذا الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته، وبما يفضى لرؤية وطنية ديمقراطية منفتحة تعيد تعريف من نحن، وطابع الهوية الوطنية الجامعة لنا كشعب، واستراتيجيات كفاحنا الوطنى والاجتماعى، وبما يُمَكِّن شعبنا من تعزيز قدرته على الصمود والبقاء، وحماية حقوقه الوطنية من مخططات التصفية، وصون حقوقه المدنية الاجتماعية منها والاقتصادية، ومختلف مكتسباته الديمقراطية التى سبق أن أنجزها عبر عقود من النضال المتواصل، وفى مقدمتها حقوق النساء والأجيال الشابة فى المساواة وتكافؤ الفرص والكرامة الوطنية والإنسانية، كمكونات عصرية لممارسة الحق فى تقرير المصير، ومبادئ حقوق الإنسان.